عنوان الموضوع : مقالة جدلية حول انطباق الفكر مع نفسه ومع الواقع للثالثة ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب

هل بناء الحقائق والمعارف يكمن في تطابق الفكر مع نفسه(الاستدلال الصوري) أو في تطابق الفكر مع الواقع (الاستدلال المادي) ؟.
مقدمة: إن سعي الإنسان الدؤوب للبحث عن الحقيقة دفعه إلى الاهتمام بأساليب التفكير وقواعده التي تمكنه من بناء معارف صحيحة ويقينية ، غير أن المفكرين والعلماء اختلفوا حول المنهج الموصل إلى بناء الحقائق والمعارف ، إذ يرى بعضهم بأن الاستدلال الصوري القائم على أساس عدم تناقض الفكر مع ذاته أو الانسجام المنطقي هو الطريق الموصل للغاية المنشودة، بينما يرى البعض الأخر بأن الاستدلال التجريبي القائم على دراسة الواقع هو الأرضية الصلبة لبناء تلك الحقائق، وأمام هذا التضارب في وجهات النظر يحق لنا أن نتسأل هل المنهج الأمثل لبناء الحقائق هو ذلك الذي ينطبق فيه الفكر مع نفسه أو مع الواقع؟
العرض: يعتقد العديد من الفلاسفة والعلماء أن بناء المعارف والحقائق يكون بتطابق الفكر مع ذاته عن طريق احترام العقلانية المتمثلة في اتساق النتائج مع المقدمات ، واحترام مبادئ وقواعد العقل والمنطق ، باعتبار أن العقل وسيلة أساسية لتأسيس وبناء الأفكار وبدونه يعجز الإنسان عن التمييز بين الخطأ والصواب ، فالمنطق يمكن الإنسان من بناء تصورات وتعاريف ومفاهيم دقيقة وصحيحة ، بالإضافة إلى أنه يُعرفنا على طرق بناء الاستدلالات والأقيسة ، و يجعل تفكيرنا موضوعي عقلاني نقدي بعيد عن الذاتية والعاطفة وضغط المجتمع والتصديق المتسرع والساذج،وتعود جذور انطباق الفكر مع ذاته إلى أرسطو من خلال ضبطه لعلم المنطق ، وقد دفعه إلى ذلك محاربته للسفسطائيين الذين يزعمون بأن الحقيقة غير موجودة وأن الموجودات لا هوية ثابتة لها فكل الأشياء والأفكار نسبية متغيرة متناقضة ، وقد استطاع منطق أرسطو دحض أقاويل السفطائيين المبنية على التناقض والغموض وبيّن أن قضاياهم وتعاريفهم تعتمد على التلاعب بالألفاظ والمعاني حيث لم يتقيدوا بمبدأ الهوية ، وكانت استدلالاتهم متناقضة وخطاباتهم مبنية على النفاق الفكري حيث يمسكون العصا من وسطها فدعاهم أرسطو إلى اتخاذ موقف صريح لا يقبل التردد انطلاقا من قانون الثالث المرفوع ، أما حديثا وبعد تطور العلم وخاصة الفيزياء تبين عجز المنهج الاستقرائي عن قراءة كتاب الطبيعة ولهذا اعتمد العلماء على المنهج الاستنباطي الرياضي، حيث توصل نيوتن بفضله إلى ضبط قانون الجاذبية وقوانين الميكانيك، وتمكن أنشطاين بفضله من بناء نظريته النسبية، وعلى كل حال يمثل هذا الموقف العديد من العلماء والفلاسفة قديما وحديثا على غرار الفارابي ،وابن سينا، وابن رشد والغزالي، وديكارت ،وكانط وأرلوند ريموند هذا الأخير الذي يقول<<لا نستطيع أن نفكر بدون إصدار أحكام وبالتالي بدون استعمال مبادئ المنطق الصورية>>.
- لكن رغم كل ما قيل عن منطق انطباق الفكر مع نفسه إلا أن الكثير يعتبرونه آلة عقيمة لا يضيف جديد فهو منطق نظري يهتم بالشكل ويتجاهل المضمون والواقع لا يصلح لدراسة الطبيعة ثم إنه منطق سكوني لا يساير تغيرات العالم، والمبادئ التي يقوم عليها غير صحيحة، فمبدأ الثالث المرفوع انتقده كانط والكثير من العلماء بعده وبينوا أن بين النفي و الإثبات حالة وسطى مثل بين الوجود واللاوجود وهي الصيرورة أو التحول ، فهناك قيمة وسطى يُعبر عنها بالاحتمال أو الإمكان، ومبدأ عدم التناقض يُعطل الفكر لأن التناقض هو الذي يحرك الوجود فبين الموجب والسالب ينبجس النور وبين الفكرة ونقيضها تتجلى الحقيقة فالتناقض أساس الحياة وصراع الأضداد يكشف الحقيقة والعلم يتطور بفعل التناقض.
وعلى النقيض من الموقف السالف يعتقد موقف أخر بأن المعارف والعلوم تتم عن طريق تطباق الفكر مع الواقع عن طريق المنهج الاستقرائي الذي يُعتبر أساس الحقيقة وعماد العلوم ، فالتفكير العلمي ينبني على الواقع وهذا ما أشار إليه بيكون بحجة أن الاستدلال الصوري عملية عقلية قاصرة وأن العقل ليس مصدر للحقيقة العلمية بل إن السبب في عدم تطور العلم حتى العصر الحديث هو استخدام هذا المنطق الذي سيطر على الفكر الإنساني مدة تزيد عن 20 قرنا ، لذا لا بد لنا من أورغانون جديد يأخذ في الحسبان الواقع التجريبي والموضوعية العلمية ، والتعامل الحسي المخبري لكشف حقيقة الظواهر الواقعية التي لا يدركها الاستدلال الصوري بواسطة القياس ، وعلينا أن نعتمد على خطوات الاستقراء العلمي المتمثلة في الملاحظة والفرضية، والتجربة ،والقانون لكشف النواميس التي تسير الظواهر لذا يقول كلود برنار<<إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنطلع على طبيعة الأشياء التي هي خارجة عنا >> كما لا بد من استعمال الرموز الرياضية للابتعاد عن الطابع اللغوي والكيفي للمنطق حتى لا نُهمل الكميات التي يزخر بها الواقع ،لذا فبعد استخدام المنهج التجريبي واتجاه الفكر إلى دراسة الواقع متسلحا في ذلك بالتجربة والملاحظة ومتخليا عن كل الأحكام المسبقة تطورت العلوم في العصر الحديث ، وبفضلها تطورت الصنائع وتعددت حتى ظهرت بفضلها الثورة الصناعية التي عرفتها أوربا في العصر الحديث ،وبفضل المنهج التجريبي تطورت كل العلوم واستقلت على الفلسفة ومنهجها التأملي بل أصبحت مصداقية العلوم تقاس بمدى استخدامها للمنهج التجريبي وأصبح كل علم لا يستخدم هذا المنهج بعيد كل البعد عن العلمية لذا تسابقت مختلف العلوم لتطبيقه. وعلى كل حال دافع عن هذا الموقف الكثير من المفكرين على غرار فرانسيس بيكون ، جون ستيوارت مل ،نيوتن ،غاليلي...الذين يجمعون على نجاعة المنهج الاستقرائي في دراسة الطبيعة.
- لا أحد ينكر أهمية المنهج التجريبي في بناء العلوم والمعارف غير أن الكثير من العلماء يتحفظون عليه على غرار كارل بوبر، غاستون باشلار الذي يرفضون التعميم الاستقرائي ويعتبرونه عائق أمام تطور المعرفة العلمية، فغالبا ما يكون التعميم متسرعا وسطحيا وساذجا فاقدا للدقة ويقدم باشلار مثالا واقعيا على ذلك بأساتذة الفيزياء الذين يُدرسون قانون الجاذبية على أساس تعميم الجزء على الكل فالملاحظة تبين سقوط الأجسام إلى أسفل ، ثم يأخذون هذا كقانون عام بالتعميم ، ولكن هذا غير صحيح بتاتا عند باشلار لأن الأجسام الخفيفة كالبخار ، والدخان ، والنار تصعد إلى أعلى ، ضف إلى ذلك أن الكثير يرجعون عدم يقينية العلوم لاستخدام هذا المنهج.
- إن الوصول إلى بناء الحقائق والمعارف يتم عن طريق التزاوج بين ما هو عقلي وما هو واقعي فالعلم يلزمه عقل وتجربة ، ويستحيل أن يتطورفي غياب أحدهما ، فالمنهج التجريبي وظيفته فحص ما هو مرئي وموجود، والمنهج الصوري وظيفته ضبط ما لا يظهر بشكل محسوس وبناء فرضيات وقوانين علمية تساعد على تطور العلوم.
خاتمة: برغم الاختلاف الظاهر بين المنهجين إلا أن الواقع العلمي والعملي يكشف الترابط والتكامل بينهما وهذا ما أكده بوانكاري عندما اعتبر أن المنهجين يلزمان بضهما البعض، وأكده أيضا محمود قاسم ، عندما أكد أن التفرقة بين هذين الأسلوبين من التفكير مصطنعة ، لأن المعرفة معقدة وطرقها متشابكة ولكنها في الأخير تلتقي وتتحد ومن هنا نقول: بالعقل والتجربة نصل إلى الكشف والبرهان ونبني الاستدلال الصحيح.
بقلم أستاذ الفلسفة بالضياف خالد



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :


=========


>>>> الرد الثاني :


=========


>>>> الرد الثالث :


=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========