عنوان الموضوع : ملاحظات على مذكرات الأمير عبد القادر المختلقة شخصية جزائرية
مقدم من طرف منتديات العندليب
هدية السيد جاك شوفالييه إلى المكتبة الوطنية المذكرات المزعومة
-----------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾
مقــدمة:
كنت أعتقد أن كتابة بحث من عدد من الصفحات يكفي للرد على ما أسموه (مذكرات الأمير عبد القادر) لكن بعد أن شاهدت على موقع منتديات الجلفة الموقرة على الانترت اهتمام هؤلاء القراء الجزائريين بملاحظاتي والاقتناع بها مما يدل على المستوى العالي من الثقافة لديهم وما يحملونه من وعي وطني عريق، حماهم الله، مما جعلني على يقين أن ما أبذله من الجهد في البحث في تاريخ هذا الرمز الوطني والقومي والديني لا يضيع سدىً، وإنما يجد من يضعه في منزلة رفيعة في عالمه الثقافي وطموحاته المعرفية، وهذه كلها صفات المثقف الراغب بمعرفة المزيد من الحقائق الذي لم يكتفِ بما قدمته أقلام الكتّاب الأوروبيين المحتلين سابقاً لبلادنا، ففتح نافذة أمامه يطلّ منها على سجلّ من الحقائق الموثقة ومعلومات لها أهميتها من مصادر مؤمنة بدينها الإسلامي، الدين الوحيد الإلهي، الدين الذي يؤمن به جميع الأنبياء والرسل، وتؤمن بقول الله تعالى في سورة الإسراء، آية 36 ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾[1]، أي لا يقول رأيت، ولم يرَ، ولا يقول سمعت، ولم يسمع، ولا يقول علمت ولم يعلم، لأن الله نهى عن القول بلا علم، وكل ذلك سيسأل العبد عنه يوم القيامة. وإذا كانت هذه الباحثة في تاريخ هذا المجاهد الأمير عبد القادر هي من لبّ عائلته، جدّتها ابنته زينب، وجدّها والد والدتها هو ابن الأمير عبد القادر الشهيد الأمير عبد المالك، وجدّها والد والدها ابن شقيق الأمير عبد القادر. والأميرة زينب عاصرت والدها، وتزوجت في حياته وأنجبت ولدين، أما والدتها الأميرة شفيقة فقد خطب الأمير عبد القادر لولده عبد المالك والدة شفيقة السيدة فاطمة ابنة عبد اللطيف أفندي العجلاني، نقيب الأشراف في بلاد الشام، وأحد كبار أعيانها المعروفين الآنسة الحسناء فاطمة، وتم زواجهما في حياة الأمير عبد القادر عام 1881. ولأهمية المصدر هنا كما هو معروف شأن كبير، في أي معلومة وقيمة مصداقيتها ولو كان ذا قربى، فالنسب وحده لا يكفي ولا يكسب المعلومة مصداقية، وإنما يجب أن يكون إلى جانب النسب الأدّلة والتوثيق المطلوب. والإسناد في شريعتنا الإسلامية لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم له أهمية كبيرة، وهو من الدين، وأقصد هنا المصدر الذي صدرت عنه المعلومة، إن كانت في كتاب أو مقالة صحفية، والسؤال: من هو؟
أولاً: تاريخه، هل كان من الثقاة، أو من الأعداء؟ هل كان مغرضاً أو مأجوراً أو خائفاً على رزقه ومنزلته أو عرف بمرض جنون العظمة وحب الذات أو طالباً يحضّر للماجستير أو الدكتوراه وغايته أخذ علامة جيدة وإرضاء المشرفين على أطروحته وتقديم معلومة ترضيهم ولو كان غير قانع بها. أذكر أن طالب ماجستير زارني وطلب مني معلومات عن تاريخ الأمير وفكره فصُدم بما قدّمته له من معلومات، وبعد نقاش وحوار اقتنع بما قدمته له من أدلة دافعة وبراهين ولكنه لم يستطع تقديمها للمشرفين على أطروحته لأنها مخالفة لكل ما يشاع عن الأمير من أنه استسلم ومن أن كتاب (المواقف) من تأليفه... لأنه لو فعل لما نال شهادته ولا أخذ العلامة المرجوّة، ولقد أهداني أطروحته للماجستير وكتب عليها أنه آسف جداً على احتوائها أخطاءً لا يريد تحملها وهو بريء منها. معنى ذلك أنه كتبها من أجل علامة جيدة تؤهله لنيل الماجستير. وبالنسبة للأمير عبد القادر، هل كان من الذين قاتلوه وانتصر عليهم فخططوا للثأر منه؟ الذين لهم مصلحة بهدم دعائم عقائده الدينية، وهدم لغته العربية، لغة القرآن كما جاء في هذا المخطوط من ركاكة الألفاظ ودسّ الأكاذيب عن لسانه، الأكاذيب المهينة له ولقومه لكسر شوكة عزّتهم وكرامتهم عن طريق هذا الرمز الكبير.
ثانياً: هل كان هؤلاء الكتّاب لتاريخ هذا البطل من الفرنسيين؟ غايتهم دغدغة نفوس ومشاعر شعوبهم بنشر معلومات كاذبة عن هذا البطل الذي أذلّهم سبعة عشر عاماً، مع العلم أن في فرنسا ظهر مفكرون غيّروا في أسلوب كتابة التاريخ بهذا الشكل القديم، ففي عام 1930 ظهر في فرنسا روّاد لهذا الأسلوب الجديد منهم المؤرخ جاك لوجوف، ميشيل فوغو، وهنري بيير، وأيضاً منهم مارك لوسيان فاير، كل أولئك سددوا طعنة إلى الأسلوب القديم، أي سرد أحداث من غير تحليل للأسباب الحقيقية، ومن غير دليل، مع العلم أن هذا الأسلوب الجديد وهو استناد إلى المعلومة ليس فقط الكتوبة وإنما المسموعة والمرئية مع تحليل أسبابها، تحدّث عنه العلاّمة ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، كما ذكر المفكر إيف لاكوس، حيث قال: أن ابن خلدون، المسلم العربي، جعل من التاريخ علماً بعد أن كان سرداً. ومع الأسف حتى الآن في بلادنا العربية يتمسّك المؤرخون والأكاديميون بالأسلوب القديم، أي بكل معلومة فقط من غير تحليل ولا تفكير أو تفتيش عن المصدر. أهو مغرض؟ وما هو غرضه؟ وتقريباً جميعهم يكررون وينقلون ما ذكره من سبقهم من معلومات عن هذه الشخصية أو تلك. وبالنسبة للأمير عبد القادر تم نقل ما كُتب عنه إلى الكتب المدرسية من غير عناء أو بذل الجهد في البحث إن كانت هذه المعلومة كاذبة مغرضة، أو صادقة موضوعية. وهذا من سلبيات النقل من غير تدقيق أو بحث جادّ.
[1]- سورة الإسراء، آية 36
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
غضب المتكبّرين:
أذكر أنني قرأت في عام 1953 في مجلة (جون أفريك) التي تصدر في فرنسا أن الأمير عبد القادر كان صديقاً لفرنسا ولنابليون الثالث بشكل خاص. هذا الخبر لا شك يفرح الفرنسيين ويدغدغ مشاعرهم، ولكن ليس جميعهم، فالبعض منهم لا يريد الأمير عبد القادر أن يكون صديقاً لنابليون منهم كتّاب ومفكرين كالأديب الإفرنسي فيكتور هوجو، والرسام الشهير دولاكروا الذي نفّس عن غضبه برسم صورة بريشته الخيالية لوالدة الأمير عبد القادر تكاد تقبّل يد نابليون. وفيكتور هوجو نفّس عن غضبه بقصيدة قال فيها[1]:
عندما أبصر عبد القادر وهو في زنزانته
والرجل الضيّق العينين الذي يسميه التاريخ نابليون الثالث
أبصره قادماً يتبعه قطيعه رجل الإيليزيه المشبوه
وهو الرجل نمر الصحراء عبد القادر والسلطان
الذي وُلد تحت النخيل رفيق الأساد الحمر، الحاجّ الشرس
ذو العينين الهادئتين، الأمير المتأمل الضاري
اللطيف، ذو البرنس الأبيض الذي ينقضّ وقد تعطّش للدماء،
ثم يهوي ساجداً في الظلام، هو الذي يصلي على طرف الطريق...الخ
القصيدة طويلة ولكن الحقد على الأمير عبد القادر العربي المسلم واضح فيها، وأيضاً الغضب الشديد من الإمبراطور نابليون الذي زار الأمير في سجنه في قصر أمبواز واضح فيها.
نشرت صحيفة الثورة السورية[2]، خبر صغير بعنوان (هل كان عبد القادر الجزائري أوروبياً؟)، وكتبت الصحيفة ردّ صغير على ما نشرته صحيفة جون أفريك ترجمته إلى اللغة العربية السيدة سراب أسمر، لاحظت المترجمة في ذلك العدد صورة للأمير عبد القادر وعلى صدره الأوسمة، وتحتها كُتب (هذه الأوسمة فرنسية)، فوجدتُ أن من واجبي الردّ وعدم الاكتفاء برد جريدة الثورة حيث اتصل بي المسؤول عن الصفحة الثقافية الأستاذ نهاد القاسم طالباً مني الردّ، وكان ردّي طويلاً اضطرت الصحيفة لكتابته بأربعة أجزاء طيلة أربعة أيام، وهذا كان في تموز 1994. وهكذا نجد أن المحتلين لبلادنا سابقاً لا يتركون فرصة إلا استغلّوها بجعل هذا البطل العربي الجزائري المسلم رجل أوروبي، فرنسياً، تمرّد على دولته ثم تاب وخضع بذلّ، وألقى سلاحه لهم، واستغفر!!!
يذكر شارل هنري تشرشل، الضابط البريطاني في كتابه (حياة عبد القادر، سلطان عرب الجزائر)، صفحة 248 و 249[3]:
[1]- مجلة الثقافة الجزائرية العدد 75 عام 1983 م، ص 315
[2]- الثورة السورية عدد 9461 تاريخ 1994
[3]- كتاب (حياة عبد القادر سلطان عرب الجزائر)، عام 1867، لندن ترجمة إلى العربي، الدكتور أبو القاسم سعد الله عام 1982م
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
النص بالكامل:
"لم يعد لعبد القادر الآن ما يخشاه أو يؤخره، غذ أصبح في حوزته اتفاقية مكتوبة، وهي تتماشى تماماً مع طلباته الخاصة"، ثم يتابع تشرشل كلامه فيقول: "سار الأمير من الدائرة إلى ميناء الغزوات في السادسة مساءً، ووصل الركب إلى ميناء الغزوات" (ملاحظة: في هذا النص كتب مقرّ قيادة الدوق دومال، ولم يقل ميناء الغزوات، لتضليل القارئ أن الأمير ذهب إلى مقر القيادة وليس إلى إلى الميناء حيث توجد الباخرة التي ستنقله إلى المشرق، إلى عكا في فلسطين، وإنما قال قيادة الدوق). ثم تابع تشرشل كلامه قائلاً: وبعد دقائق توجّه عبد القادر ومن معه مصحوباً بالجنرال دي لا مورسيير للمثول بين يدي الدوق، وبعد دقيقة صمت تفوه عبد القادر بالكلمات التالية، فزعم أن الأمير قال: (لقد كنت أرغب أن أفعل ما فعلته الآن منذ زمن طويل، والآن الجنرال أعطاني وعداً، وإني لا أخشى أن يخلفه لأنه ابن ملك عظيم). ثم يقفز تشرشل فوق الأحداث فيقول: "في اليوم التالي عقد الدوق استعراضاً عسكرياً (وهنا تظهر أحقاد تشرشل)، وقف عبد القادر الذي كان ممتطياً جواداً عربياً أصيلاً، وكان محاطاً بقادة جيشه ينتظر عودة الدوق من الميدان، وعند اقتراب سموّ الدوق ترجّل عبد القادر وتقدّم من سموّه وزعم أن الأمير قال: (إنني أقدّم إليك هذا الجواد الذي هو آخر جواد أمتطيه، لقد كان جوادي المفضّل، وتقديمه لك هو عنوان اعترافي، وإني أرجو أن يحملك دائماً إلى النصر والنجاة والسعادة أيضاً)، وزعم تشرشل أن الدوق ردّ عليه: (إني أقبله منك باعتباره إكراماً لفرنسا البلد الذي سيحميك منذ الآن)". انتهى النص.
وهنا جعل تشرشل الأمير وكأنه ثائر فرنسي، تمرّد على حكومته ثم تاب فألقى سلاحه ووقف أمام ممثل دولته نادماً معترفاً بذنبه، يقدّم أفضل جواد عنده إكراماً لفرنسا، بلاده التي ينتمي إليها، ويتمنى لقائد جيشها النصر والحياة السعيدة، يقدم جواده ليحمل هذا القائد إلى النجاة (النجاة ممن؟؟)، الجواب: من أبناء الشعب الجزائري الرافضون للاحتلال الذي يعتدي عليهم هذا الجنرال الإفرنسي بأخطر الأسلحة، والذي ما زال يعتدي عليهم باحتلال بلادهم في تلك اللحظة. جعل تشرشل الأمير يتمنى النصر لأعدائه محتلي بلاده، وكأنه انقلب بين ساعة وأخرى من مجاهد عربي جزائري إلى جندي إفرنسي متمرد تائب مستسلم بذلّ.
وتناسى تشرشل أن عبد القادر، هذا الرجل الذي جعله يقدّم جواده ويتفوه بهذا الكلام، هو من زرع بذور المقاومة في نفوس شعبه، وقاد هذه المقاومة أكثر من سبعة عشر عاماً وانتصر على أكبر قادتهم وأذلّهم بانتصاراته عليهم التي لا تعدّ، والآن هو يخرج من الجزائر لحقن دماء أبناء شعبين شقيقين، الجزائر والمغرب، دماء أخوة في الدين والعروبة والجوار، لأنه المقصود باتفاقية طنجة بين بيجو والسلطان، وهو المقصود بهذه الحرب، فاضطر للانسحاب من زعامة المقاومة بالمفهوم العسكري، والهجرة بالمفهوم الشرعي الإسلامي ليعود أكثر قوة بعد فك ذلك الحصار من غير إسالة دماء الطرفين المسلمين، كما قال في أول الصفحة عقد اتفاقاً، وهو يحمل في جيبه وثيقة رسمية لا يخشى مكروهاً، ولكن تشرشل لم يخطر له أن الأمير سيخرج وهو مطمئن أن المقاومة لن تتوقف لأنه ترك رجالاً مؤمنين من خلفائه سيتابعون المسيرة لإنجاح وانتصار هذا المشروع، مشروع التحرير، مشروع الشعب الجزائري لتحرير الأرض والإنسان والحفاظ على راية الإسلام مرفوعة.
ووصف تشرشل الحاقد في هذا السيناريو، وصف الأمير إما كمن فقد عقله وإما من نشأ نشأة ذليلة جاهل واعتاد على النفاق. أما في (تحفة الزائر)[1] فلقد نُقل هذا السيناريو كما هو مع بعض التغيير البسيط، فقال المؤلف (قام الأمير وقدّم للدوق سيفه، وقال له هذا شرف أقدّمه لفرنسا وفخر عظيم لها، ثم قدّم له جواده مع طبنجيته، وأهداه أيضاً ساعته)، ونسي أن يقول أيضاً برنسه وحذاءه وسار حافياً وعارياً.
الحقيقة أن لا تشرشل ولا مؤلف (تحفة الزائر) كان لهم حضور في تلك الأحداث، ولا أحد منهما قدّم دليلاً على أقواله، فتشرشل حتماً لم يكن حاضراً، ومؤلف (تحفة الزائر) كان في سن السادسة بحضن والدته، أي طفل صغير، لأنه ولد في عام 1844 في القيطنة أو حصن داكمت. وتلك الأحداث جرت في عام 1847، أي كان في سن لم يصل فيها السبع سنوات، وهذا دليل على أن المؤلف نقل هذا الكلام عن كتاب هنري تشرشل الذي سبق إصداره لكتابه بأكثر من أربعين عاماً، ولكنه زاد عليه من خياله إهداء السيف، وجملة (أحسب هذا شرفاً قدم لفرنسا وفخراً عظيماً)، وكأنه هو أيضاً، وأقصد المؤلف، حريص جداً على شرف فرنسا كالبريطاني فنقل عنه هذه الخيالات إلى كتابه وزاد عليها، وكأنهما في سباق من يفوز برضا فرنسا أكثر وعن لسانه ويصورون الموضوع كأن بينه وبين فرنسا خلاف شخصي كخلاف جار مع جار له، أو على الأصح مواطن معارض لقوانين دولته أو نظامها، ثم تاب وندم ووقف يعتذر ويقدم الدليل على تمسكه بعزة فرنسا وسمعتها مذكراً قادة بلاده بموقفه هذا الذي هو فخر لفرنسا، بلاده العزيزة عليه!!
ليس مستغرباً أن يصل الخيال بكاتب أوروبي حاقد على كل مسلم عربي بطل إلى هذه الدرجة، بطل قاد جيشاً ضعيفاً بالنسبة لجيش أقوى دولة أوروبية برية في ذلك الزمن، ووقف في وجه مصالحها وكبّدها تلك الخسائر الفادحة في المال والأرواح، ليس مستهجناً ولا مستغرباً أن تصل به غيرته على جيش أوروبي ينتصر عليه قائد عربي ويهزمه تلك الهزائم النكراء. ويتطاول به الخيال إلى هذه الدرجة من اللاعقلانية والأسطورية، تجاوزت الخيال العلمي المعروف، ولكن نقل نصوص منه بكاملها من الخيالات من غير دليل، ليس فقط خطأ، وإنما كارثي وآثاره وما تركته في أذهان القراء من الاستغراب حتى لو كان فرنسي لا بد للقارئ أن يرى أن هذا المشهد لرجل فقد عقله تماماً أو أنه بعد تعذيبه بالكهرباء أو بوسائل أبشع فقد اتزانه وذاكرته ونسي حتى اسمه ومن هو. والدليل على أن ما ذكر في هذا السيناريو الخيالي هو مجرد خيال عدو حاقد هدفه الانتقام من الأمير. والدليل على أن الأمير لم يفقد عقله، هو موقفه في اليوم التالي أو على الأصح بعد ساعات من إبلاغه إلغاء الاتفاقية وجوابه لدوماس[2] في طولون. وهنا أنقل النص الكامل لجواب الأمير لدوماس في كتاب هنري تشرشل، الصفحة 252، وهذا هو النص حرفياً (وكان عبد القادر يستمع إلى خبر إلغاء الاتفاقية وتقديم البديل وهو البقاء في فرنسا واحتلال القصور والمزارع)، وحينما ألحّ دوماس على الأمير بالرد، يذكر تشرشل في هذا النص أن عبد القادر انطلقت أساريره وركّز عيناه اللتان كانتا كعيني النسر على صديقه القديم (وهنا لي ملاحظة صغيرة على وصف تشرشل لدوماس بالصديق. يقصد تشرشل أن دوماس كان قنصل فرنسا أثناء الهندة التي اعتبرها الأمير هدنة مؤقتة لالتقاط الأنفاس وتقوية أمور دولته وجيشه عام 1837عينته فرنسا قنصلاً لها في العاصمة معسكر)[3]. (وتابع تشرشل كلامه: أن عبد القادر قال لدوماس: ألم تعد تعرفني؟ هل أنت الذي تتكلم معي هكذا؟ أين مواهبك الدبلوماسية المفيدة جداً لفرنسا، ثم أخذ طرف برنسه بكلتا يديه ومال نحو النافذة قائلاً بصوت حاد: لو كنت ستأتي إليّ باسم مليكك بكل ثروات فرنسا وملايينها وتضعها في برنسي هذا لرميتها كلها إلى أمواج هذا المحيط الذي يغسل جدران هذا السجن ولن أتخلّى عن الوعد والاتفاق وسأحمله معي إلى قبري والخزي والعار سيلتصقان بكم وليس بي). هذا الموقف دليل واضح على أن الأمير المجاهد لم يفقد عقله ولا رباطة جأشه وشجاعته التي عُرف بها ولم يكن ضعيفاً حينما عقد ذلك الاتفاق، ولو كان ضعيفاً وأدركت فرنسا أنه كذلك لرفضت خروجه من الجزائر وتابعت الحرب ضده. كذلك رفض ما قدموه إليه باعتراف أعدائه، ذلك العرض المغري لأن معناه النفي، والنفي عقوبة من طرف قوي على طرف ضعيف ولو كان مغلّف بالحرير كالعرض الذي قدّموه للأمير ونُقل إلى كتاب (تحفة الزائر). ولكن في (تحفة الزائر) زيد على النص من جواب الأمير بطولون أنه قال الآتي: لو وضعتهم فرنسا كلها وفرشتموها بالديباج لنفضتها غلى أمواج هذا المحيط، وربما سمعها المؤلف من الأمير نفسه لأن بعض أجزاء من كتابه كتبها المؤلف في حياة والده.
والدليل الثاني: لو كان الأمير قد وقف أمام الدوق تلك الوقفة الذليلة وكان قد وصل إلى هذه الدرجة من الضعف، لما قامت فرنسا باختطافه وبإلغاء الاتفاقية وبلّغته بهذا الأمر في قلعة عسكرية بفرنسا لأن مثل هذا الرجل لا يُخشى منه ولا من احتمال عودته إلى الجزائر، فبأي عين سيقابل بني قومه بعد أن وقف أمامهم يدلي بأمنياته لدومال العائد من الميدان، ويقدّم له الهدايا ويتمنى له النصر والنجاة بجواده المفضّل العربي الأصيل؟ وهنري تشرشل ضابط بريطاني درس الفنون العسكرية في الكليات البريطانية الملكية، ضابط ذكي وخبير، كان يدرك أن ما تخيّله لا يقنع أحد لأن ليس فيه شيء من المعقولية، ومن غير دليل. ولكن كان يعلم أن السيناريو سوف يصبح مرجعاً في المستقبل وتكمن أهميته أن مؤلفه بريطاني محترم، وما سوف يعلق بالأذهان يكفي لمن يريد الكتابة عن عبد القادر حسب أهدافه ، كما يقول المثل الشعبي (ارمي الطينة على الحيط إذا لم تعلق تعلّم)، وهي عملية غسل دماغ ليكرّس فيه الكاتب ما يريده ويختاره وبصورة خاصة الكاتب المغرض الذي يريد من الشعب العربي والشاب الجزائري في بدء تكوين ثقافته والطفل، بصورة خاصة، في بداية وعيه أن عبد القادر استسلم وذهب إلى فرنسا. لقد كرر تشرشل عشرات المرات كلمة استسلم في الأجزاء الأخيرة من كتابه بغاية تكريسها في عقول الأطفال والشباب، كما أسلفت، وهذا المخطط يستطيع الباحث الموضوعي كشفه بسهولة. وفي الندوة الفرانكفونية التي أقيمت بقصر دمر وبتكليف من اللجنة ألقيت محاضرة تكلمت فيها أكثر من ساعة وربع، فوجهت كلامي أثناء محاضرتي إلى السفير الفرنسي وزوجته وقلت أن الأمير عبد القادر لم يكن يوماً صديقاً لفرنسا لعدة أسباب، أولاً خرج من بلاده وهو يحمل اتفاقية رسمية بينه وبينها، فأمرتم قبطان الباخرة التي كانت في طريقها إلى المشرق فحولت مسيرها إلى فرنسا، هذا أولاً، وثانياً: إلغاء الاتفاقية ، ولا أقول أنه ليس لها الحق بإلغائها وإنما التبليغ الذي كان في قلعة عسكرية فرنسية بطولون لا في دائرة الأمير بالجزائر والأمير ما زال بين فرسانه وقواته، فلو أن الأمير أُبلغ بإلغائها وهو بين قواته، لاختار العودة إلى القتال، لذلك لا يجوز القول أنه استسلم أو سلّم نفسه، ولا يستطيع أحد الحكم على أمر لم يحدث، والذي حدث بالفعل هو عملية اختطاف وغدر بإالغاء اتفاق رسمي خرج الأمير وهو يحمله. كنت أتكلم وأنظر إلى وجه السفير الفرنسي، وحينما شاهدت اصفرار وجهه ووجه زوجته، تابعت كلامي فقلت: ولكن فرنسا احترمته ولم تهنه وإنما قامت نحوه بعمل حضاري ولم تضعه في سجن من سجونها وإنما نقلته بكل احترام إلى قصر من قصور ملوكها. وبعد الانتهاء من محاضرتي تقدم السفير الاسباني وقبّل يدي وأعطاني بطاقته وطلب زيارتي، وأيضاً القائم بالأعمال البلجيكي وزوجته وغيرهم من السفراء. كان العدد كبير والكل قدموا لي احترمهم وشكرهم، ربما لأنهم سمعوا كلاماً موثقاً بالدليل العلمي مقنعاً وموضوعياً غير الذي قرأوه عن الأمير عبد القادر في الكتب القديمة من تأويل وتفسيرات عشوائية للأحداث ومن غير دليل.
[2]- دوماس أحد كبار الضباط الإفرنسيين عُيّن قائم بالأعمال، أي قنصل فرنسا في=عاصمة دولة الأمير معسكر المؤقتة حتى تحرير مدينة الجزائر التس ستصبح عاصمة بعد معسكر ومعلّم اللغة العربية وقرأ التاريخ الإسلامي، وذلك بعد معاهدة تافنا.
[3]- هنري تشرشل، كتاب (حياة عبد القادر، سلطان عرب الجزائر)، لندن 1869، ص 252، الفصل العشرون.
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
هدية تيسيه وجاك شوفالييه للمكتبة الوطنية في الجزائر:
والآن ما زلنا في المقدمة نكتب عن أهمية السند أو مصدر المعلومة، فلو لم أكن من لب عائلة الأمير عبد القادر لما قدمتني المهندسة جورجيت خوري المشرفة على القصر مندوبة مفوضية الاتحاد الأوروبي بدمشق، وبأنني الحفيدة الأقرب نسباً إليه والباحثة في تاريخه، ولو قدمتني كحفيدة فقط لشكّوا في كلامي واعتبروه عاطفياً، ولو قدمتني كباحثة فقط لما أصغى أحد إلى كلامي ومعلوماتي أو اعتبروها درس في التاريخ يُقدّم إليهم في أحد الجامعات، ولكن اجتماع المصدر إلى جانب الأدلة العلمية أكسب محاضرتي المصداقية الكبيرة، وهذا كان سبب ذلك الاهتمام والاحترام والتقدير لكل ما قدمته من معلومات، ولم يتقدم أحد من الحضور بمداخلة سوى المهندس الكبّارة وهو دمشقي، ألقى كلمة عن تاريخ الأمير، وقبل أن يقف متكلماً وجّه كلامه إليّ قائلاً: أرجوكِ إن وجدتِ في كلامي خطأ ما صححيه لي، هذا دليل على ثقة الجميع بالمصدر، وأقصد المحاضرة الحفيدة التي ألّفت المجلّدات عن تاريخ الأمير في حقبة من تاريخ الجزائر وعن الثورات والمقاومة الجزائرية وعن أولاد الأمير وأحفاده، تراجم لكل واحد منهم. كتبت عن الإسلام كدين سماوي وحيد، دين جميع الرسل والأنبياء وعن الأسس الاقتصادية في الإسلام، وكتاب رد على كتاب شارل هنري تشرشل من ثلاثمائة صفحة، وكتبت سيرة ذاتية لزوجها العميد عدنان العجلاني الذي خاض معارك دفاعاً عن فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني، وكتاب ردود وتعليقات على كتب فيها تشويه لتاريخ الأمير عبد القادر بوصف خروجه من الجزائر بالاستسلام والتسليم ككتاب تشرشل وبالمار وبول آزان وغيرهم كثير ممن وضعوا السم بالدسم في هذه المؤلفات التي أصبحت مراجع ذات قيمة في العالم، وأخيراً قي عام 1970 قدموا مخطوطاً للمكتبة الوطنية في الجزائر زعم كل من الكردينال هنري تيسيه وجاك شوفالييه[1] رئيس بلدية مدينة الجزائر أثناء الاحتلال، أنهم وجدوه بين الأخشاب في قبو القصر أطلق عليه المسؤولون في وزارة المجاهدين اسم (مذكرات الأمير عبد القادر) واستلموه بحفل كبير.
وما أكتبه الآن ليس رداً على من حققوا هذا المخطوط ولا من وضعوا له مقدمات، وإنما أكتب ملاحظات على المخطوط نفسه ككل ملاحظاتي في مؤلفاتي التي جاءت نتيجة لأبحاث جادة وثمرة جهدي الشخصي، احتاجت مني لتأليف كتباً أقلها من ثلاثمائة صفحة لأن البحث في المواضيع التاريخية عملاً ليس سهلاً، والتحليل هو عمل علمي وتصحيح الأخطاء وتقديم الأدلة العلمية لا يمكن اختصارها في كتاب واحد. وطبيعة البحث، كما ذكر الدكتور أبو القاسم سعد الله في آخر مقدمته في الجزء الأول لموسوعته (تاريخ الجزائر الثقافي): (ذلك أن البحث لا ينتهي بصدور كتاب واحد في مثل هذه الموضوعات لأنه كنهر الحياة). والبحث في تاريخ الأمير عبد القادر وما كُتب عنه وتصحيح الأخطاء التي وردت فيها واختصار كل ذلك في كتاب واحد مستحيل، لأن هذا المجاهد الكبير ليس برجل عادي، كما ذكر الدكتور اسماعيل الزروخي في قراءة تحليلية لكتابي (فكر الأمير عبد القادر) حيث قال: (لا يمكن لأي باحث الإلمام إلماماً تاماً بمسيرة هذا الرجل نظراً لخصوبتها وثرائها وتنوعها لأنه كالجبل الشامخ الذي يحتوي على مجموعة من الكنوز وكل من يحاول التنقيب فيه لا بد أن يعثر على معين لا ينضب من الكنوز).
هذا صحيح، ولكن هذه الكنوز لا بد من تنقيتها من الشوائب والأتربة ليظهر تألقها واكتساب الفوائد منها من (فوائد وعبر وعظات). ولا أدّعي أنني استطعت الرد على كل ما كُتب عن هذا البطل لأنه قلّ أن يوجد في العالم بطل كُتب عنه بالكمّ من المؤلفات الأجنبية والعربية كما كُتب عن الأمير عبد القادر من طارق بن زياد وعقبة بن نافع إلى أبو مسلم الباهلي وحسان بن النعمان إلى خالد بن الوليد وإلى صلاح الدين الأيوبي الذي هزم الصليبيين، والقائد بيبرس الذي هزم التتار في عين جالوت، وهذا على سبيل المثال.
الباحثة
بديعة الحسني الجزائري
[1]- هنري تيسيه هو كردينال أب حبر الكنيسة في مدينة الجزائر. جاك شوفالييه كان رئيس بلدية مدينة الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي.
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
الفصل الأول
وعودة على بدء في موضوع هذا المخطوط الذي زعموا أن أحد أفراد عائلة شوفاليه عثر عليه بالمصادفة أثناء بحثه عن بعض الحطب في قبو القصر يستطيع الباحث أو طالب المعرفة، أيٍ كان، أن يجد ثلثي هذا المخطوط في مكتبات بلاده بسهولة ويسر، وعن معلومات تاريخية لا علاقة لها بحياة الأمير ولا بذكرياته، يجدها منسقة ومفهرسة وليس بهذا الأسلوب العشوائي وهذه الخلطة العجيبة من المعلومات في هذا المخطوط.
الأمير بريئ من هذا المخطوط:
والأدلة عديدة وكثيرة على أن الأمير لم يكتب في هذا المخطوط كلمة واحدة، وحتى ولا سطر واحد، ولا أملاه على أحد. من هذه الأدلة على سبيل المثال لا الحصر، ومن أهمها:
أولاً: الأسلوب الركيك والكلمات العامية والسوقية في بعض النصوص، والأمير عُرف بأنه شاعر وأديب وفقيه باللغة العربية الجميلة وحفظ القرآن عن ظهر قلب في طفولته في معهد القيطنة، وهي مزرعة أجداده كما أسلفت، ودرس في معهدها ومعاهد وهران وفاس والزيتونة شتى العلوم اللغوية والفقهية والإنسانية.
ثانياً: المعلومات التي منها المغلوط وغير صحيح، والصحيح من هذه المعلومات يعرفها عامة الناس الذين عاشوا تلك الأحداث أو شاركوا فيها، واحتمال وجود الجواسيس بينهم، كانوا ينقلون الأخبار إلى الدولة المعادية بتفاصيلها من ميادين القتال، والأمير ليس وحده من يعلم بتفاصيل هذه الأحداث لتعتبر (من مذكراته). هل هذا معقول؟ وهل ينسى أحد مذكرات كتبها بخطه ويرميها؟ أو يقدمها لمن لا يعرف قراءتها من الفرنسيين؟ ولماذا؟ وكيف يجرؤ قبطان على طلبها من الأمير، والأمير كان قد كتب رسالة قدّمها للقساوسة الذين طلبوا منه معلومات عن الإسلام وهي (المقراض الحاد)، ولكن لم يكتب غيرها ولم يقدّم لأحد غير للقساوسة أي رسائل أو كتب، وهو أمر معروف ومؤرخ.
ومن الكلمات التي ترددت بشكل ملحوظ في نصوص عديدة في هذا المخطوط منها (المشروف) بدل (الشريف)، و(مركانطية) لا أدري ما القصد منها، ثم كلمة (تسريح) و(سرحونا) و(تسريحنا)، وهذا دليل على أن كاتبها كان جندياً أو راعي غنم ومواشي أو عامل، لأن هذه الكلمة لا تستعمل في اللغة العربية إلا لهذه الوظائف الثلاث، فُيقال (سُرّح العامل من عمله) أو (سرح الراعي الغنم) أو (سرّح الجندي) أو (سرّح الزوج زوجته) أي طلّقها ولكن الأمير لم يكن بينه وبين فرنسا عقد زواج لتسرّحه وإنما كان بينه وبينها حرب ضروس ثم عقد استئمان زمني، اضطر إليه لوقف قتال يتضمن حرية مطلقة لزمن معين وهو حتى وصوله إلى عكا (ويسمى استئمان) أي ليس فيه صلح لأنه وجد أن خروجه من الجزائر مهاجراً غير ممكن من دون اتفاقية رسمية مع فرنسا لأنه لا يستطيع الفرار، فهو رئيس دولة وقائد مقاومة وجيش نظامي يستحيل عليه التحرك بمفرده ويترك عائلته بين الأعداء أو الأصدقاء لذلك عقد هذا الاتفاق، ويستحيل عليه القوا عن نفسه هذه الكلمة (تسريح) ويرددها لا هو ولا التهامي الذي كان أيضاً أديب وشاعر وفقيه في اللغة العربية ويعرف قدر نفسه، ويعرف كيف يضع النقاط على الحروف ويستعمل الكلمة في مكانها.
ثالثاً: كلمة نصارى أيضاً ترددت كثيراً في نصوص هذا المخطوط، وكأن الأمير كان يحارب النصارى، وهذا خطأ كبير، لأن الأمير كان يقاتل عدواً معتدياً من منطلق إسلامي شرعي فرضه رب العالمين، فقال في سورة البقرة ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[1]، وهذه الآية في غاية الوضوح والسداد، فهو لم يذهب إلى فرنسا ويقاتلها ويعتدي عليها، وإنما فرنسا هي من دخلت بلاده بجنودها المدججين بالسلاح للسيطرة على بلاده، فكان يقاتل معتدين بصرف النظر عن دينهم ومذاهبهم، لكن السلطان عبد الرحمن في رسائله للقبائل هو من كان يعتقد ذلك لا الأمير عبد القادر.
رابعاً: من الأدلة الواضحة على أن الأمير ليس هو من شارك في هذا المخطوط الذي سمي مذكرات هي قصة رسالة ليون روش المزعومة، هذا الجاسوس الإفرنسي، وكان من أحد أبناء النبلاء الذي استطاع الوصول إلى الجزائر أثناء سلطة الأمير على ثلاثة أرباع القطر الجزائري، وتمكن من الدخول عليه وتمكن من إقناعه بأنه يرغب في اعتناق الإسلام، وأنه اطلع عليه ويريد المزيد، وأنه تعلم اللغة العربية من أجل قراءة القرآن، وأسلم وتزوج من مسلمة وانضمّ إلى المقاومة، ثم غدر بها وأضرّ بها ووزّع نشرات فيها فتاوى مزوّرة عن علماء في مكة ومصر بعدم جواز المقاومة شرعاً، ثم انكشف أمره وفرّ إلى فرنسا. هذا الجاسوس، أيمكن أن يتجرأ على مكاتبة الأمير وعرض المساعدة عليه؟ وفرنسا بعد انكشاف أمره وفراره عينته في عدد من المناصب، وأخيراً قنصل لها في طنجه. وهل يجرؤ من كان هذا تاريخه مع الأمير ورجاله وهو الجاسوس الخائن الغدّار ويعرض المساعدة؟ وهل يمكن للأمير من الوثوق به وقبول مساعدته للخروج من الجزائر والاجتماع به في مليله، كما جاء في الصفحة 182 من هذا المخطوط؟ وربما الرواية فيها شيء من الصحة، ولكن ذكرها في هذا المخطوط وعن لسان الأمير بالحرف الواحد (أن عمرو ولد الروش أخذته الغيرة علينا ولم تتركه المحبة ومخالطة الحاج عبد القادر التي لم يرَ فيها ما يشينه لا ظاهراً ولا باطناً). ولكن هل لم يسمع أحد بالحكمة التي تقول (لا يُلدغ العاقل من جحرٍ مرتين). والغريب في تعليق المحقق للمخطوط بالقول في صفحة 182، التعليق رقم خمسة (كلام الأمير تأكيد على صفاء طويّة ليون روش. وهنا لا بد لي من تعليق على كلام المحقق وسؤاله عن أي صفاء طوية؟ الغدر والغش يعتبر حسن طوية وحسن نية وطيبة؟ وقول المحقق أن ظروف السجن للأمير لم تسمح له أن يقول غير هذا الكلام عن قنصل فرنسا في طنجه آنذاك). وهذا التعليق أيضاً غريب جداً من كاتب جزائري باتهام الأمير بالنفاق أيضاً لأن الكاتب لم يقل في هذا النص أن الأمير هو من وصف ليون روش بالغيرة والشهامة والمحبة، وإنما كتب (لم تتركه مخالطة الحاج عبد القادر). هذه الجملة فيها شيء من الشك، تدلّ على أن الكاتب ليس الحاج عبد القادر، ولو كان الأمير هو من يكتب لقال (لا يرى ما يشين من مخالطتنا أو مخالطتي) مثلاً، هذا أولاً، وثانياً، ألم يلاحظ المحقق للمخطوط درجة الحقد على الأمير عبد القادر وعلى الجزائريين أيضاً، ووصف الحاج عبد القادر، هذا المجاهد الكبير المؤمن وصفه في هذا المخطوط بالنفاق للفرنسيين بمدح ليون روش الذي غشّه وغدر به لأنه قنصلها في طنجة، ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[2] كما قال رب العالمين، ثم وصف هذا المجاهد بالسذاجة إلى درجة الغباء، وأيضاً الجزائريين من رجاله المجاهدين أيضاً الذين قبلوا تلك الرسالة من الجاسوس الإفرنسي ليون روش، وأجابوه عليها ووثقوا به وهو الذي لعب أخطر دور في تاريخ ثورتهم بالإضرار بالمقاومة لذلك كرّمته دولته حينما فرّ إليها وانكشف أمره بأن عينته بأعلى المراكز وكافأته على نجاحه في المهمة التي كُلّف بها.
إذا صدّقنا جدلاً كهذا المحقق أن الأمير كتب، فهل يمكن أن يكتب عن هذه الحادثة أو التجربة مع ليون روش وعن خاتمتها بأقل من المرارة والأسف والغضب؟ لا أن يتكلم عن محبة ليون روش وغيرته، أي شهامته، والمخالطة غير المشينة، فالأمير إن كان غبياً وساذجاً لهذه الدرجة فهل كان مجنوناً فيصف الجاسوس الإفرنسي الذي غدر به وكذّب عليه وأضرّ به وبالمقاومة وأساء إليه شخصياً أيضاً، فيصفه بالمحبة والشهامة أي الغيرة عليه وعلى الجزائريين؟ والمصيبة أن المحقق وجد له العذر، وأن ما قاله الأمير كان مجاملة منه لفرنسا كونه في السجن، أي أنه جباناً منافقاً، ولوكان هذا المجاهد المؤمن منافقأ لما كتب عنوان للرسالة أو الكتاب الذي قدّمه إلى القساوسة حينما طلبوا منه وهو في السجن أن يكتب لهم عن المعتقدات الإسلامية وعن أشياء أخرى تتعلق بالدين الإسلامي، ماذا وضع عنواناً لهذا الكتاب؟ العنوان هو (المقراض الحاد لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالكفر والإلحاد)، هذا العنوان بالتأكيد لا يصدر عن منافق، إنما عن رجل شجاع، بطل مجاهد لا يخشى الأعداء حتى في سجنه.
[1]- سورة البقرة، آية 190
[2]- سورة النساء، آية 145
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
التاريخ الروماني:
وموضوع آخر لا بد من التكلم عنه وهو عن النصوص التي جاءت في الصفحة 198، وغيرها، والتي نسب فيها للأمير المبالغة في مدح الإفرنسيين كجنس والرومان كحضارة. وإن بالقرآن الكريم أتى مديحهم بقوله تعالى في سورة الروم ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾[1]. وهذه الآية لا يوجد فيها أي نوع من المديح للرومان، وإنما هي خبر يخبر به سبحانه وتعالى نبيّه لأن في ذلك الوقت كان الروم والفرس في حرب، وكان المسلمون يتمنون أن يغلب الروم لأنهم أهل كتاب والفرس كانوا وثنيين، وهم يعادون الأوثان لذلك يحاربون أصحابها. وهذه الآية من كثير من الآيات تضمنت أخبار الماضي والحاضر والمستقبل، وقال تعالى لنبيّه والمؤمنين في سورة المائدة ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[2]، وليس في كلام الله تناقض في هذه الآيات، والآية التي ذكرها تعالى في سورة المائدة ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾[3]صدق الله العظيم. وهذا الرجل الأمير عبد القادر مجاهد مسلم مثقف ثقافة دينية راقية، حفظ القرآن، درس كتاب البخاري، ومن هو البخاري؟ هو الإمام الجليل محمد بن اسماعيل بن مغيرة البخاري المتوفي عام 276 هـ، وأجمع العلماء على صحة الحديث في كتابه، وأنه كان من جهابذة فن الحديث ونقّاده، وجميع أئمة الحديث حتى الآن أعطوا حكمهم بصحة أسانيد البخاري، وأجمعوا على أن وجود حديث في كتاب (صحيح البخاري) يقطع بصحة الحديث الشريف. هذا هو الكتاب الذي ختمه ودرسه الأمير في حصاره لعين ماضي، وأيضاً في حصاره لمدينة تلمسان قبل تحريرها، وكذلك درس الحديث والتفسير في معاهد وهران وفاس وزيتونة، ودرس التاريخ الإسلامي. فمثل هذا الرجل العالم لا يمكن أن يتحول إلى رجل جاهل ولو في سجون الأعداء والدليل، كما أسلفت، ذلك العنوان الجريء والقاسي الذي وضعه لرسالته إلى الأساقفة من غير مجاملة ولا خوف، وهو أيضاً يعلم التاريخ الروماني، ويعرف الكثير عن التاريخ الإسلامي وعن الخلافات الخطيرة التي حدثت بين الرومان والنصارى في بلاد الشام ومصر من الكتب التاريخية التي كانت في مكتبته في أمبواز وحملها معه وورثها جدّي، وكانت في مكتبة حوش بلاس وانتقلت إليّ بعد وفاته. ومن هذه الكتب القديمة كتاب (فتح مصر) لألفريد بتلر، ومؤلفات الأسقف النقروسي في القرن الأول للهجرة وفيه وصف لحكم الرومان لمصر ومعاناة الأقباط من ظلم الحكم الروماني، ومؤلفات لميخائيل الأكبر السرياني في القرن السادس عن وحشية الرومان وغدرهم، وكتاب لجوبون (تاريخ انهيار الإمبراطورية الرومانية)، وكتاب (تاريخ العالم للمؤرخين)، وكتب قديمة تتحدث عن أوروبا بما فيها فرنسا وكيف كانت تتخبط بظلام الجهل والفساد والهمجية في أوساط مجتمعاتها أشد هولاً من تاريخ ماضيها الذي يرجع إلى اليونان ثم الرومان الذين من خصائصهم التعالي على الآخرين وشدة التمسك بزخارف الدنيا والقسوة في سبيل تحقيق رغباتهم المادية، وشعارهم الذي عُرفوا به (المادة)، فنحتوا التماثيل وعبدوها. ومن صفاتهم الاعتداد والفخر بقوتهم إلى درجة العبادة والتقديس لقوتهم. وقد قرات كتاب (تاريخ اوروبا) للراهب أغستين، ومما قرأت في هذه الكتب معلومات عن ميادين المصارعة الوحشية وفرح وسعادة المشاهدين في مجتمعاتهم لرؤية بطل يصارع آخر حتى الموت أو يصارع حيوان مفترس جائع كأسد أو نمر يُرمى إليه المحكوم بالإعدام من العبيد. وقرأت كتاب (أخلاق أوروبا) للمؤرخ ليكي.
ولا شك أن الأمير كان قد قرأ هذه الكتب وعليها بعض التعليقات بخطه يقارن بينهم وبين الإسلام وتربيته الإلهية، لأن المسلم في الأزمات الخطيرة والحروب يتوجه إلى الله. قال الله تعالى في سورة الأنفال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[4]، والأمير إنسان مسلم وكذلك الذين معه. الملاحظ في هذه الصفحات أنه لا يوجد ذكر الله، وإنما يوجد المديح للإفرنسيين بأصحاب الملك القديم وأهل الوفاء، والأمير هو أعلم بتاريخ فرنسا والإفرنسيين والرومان الذين ينحدرون منهم. ولا شك أن الأمير قرأ ما قرأته في أحد كتبه عن شاعر بسيط طلب منه أحد الملوك العرب فرسه فقال:
أبيت اللعن إن سهاب علق *** نفيس لا تهدى ولا تباع
وأبى هذا الشاعر العربي بيع فرسه ولو بأغلى الأثمان، ولعن نفسه إن فعل وقال له أنها لا تباع ولا تهدى، فكيف الأمير يهدي فرسه التي جاهد عليها لقائد ما زال يحتل بلاده التي فداها بدمه وماله. والحقيقة أنه ترك جواده بيد جزائري كان يقف في المرفأ لأنه لا يستطيع أخذه معه في الباخرة. وهذا هو الواقع الموضوعي ان جواده أُخذ منه قبل ركوب الباخرة. وذكر احد الصحافيين أن الجنود بعد ركوب قافلة الأمير خروا على حوافر ذلك الجواد يقبلونه ويبكون قائلين (هذا الجواد كان يحمل قائدنا وأميرنا). ذُكرت هذه الحادثة في كتاب (تحفة الزائر). فهذا الشاعر العربي البسيط صعب عليه بيع فرسه، فكيف يهدي قائد مقاومة وأمير البلاد جواده إلى عدوه الذي ما زال يحتل بلاده ويذيق أهله وشعبه وأبناء أمته الويل والذل وهوان الاحتلال؟ وأذكر انني قرأت بين كتبه عن دخول نابليون بونابرت الإمبراطور الإفرنسي إلى مصر وادّعائه الإسلام ولبس العمامة نفاقاً وكذباً من عام 1798 إلى عام 1801، وعن الضربات الموجعة التي وجهها إلى الشعب المصري. هذا الإمبراطور الغدّار الذي ذبح وقتل ودخل بخيول جنوده الأزهر الشريف، فإذا نسي تاريخهم معه ونسي أنه كتب جواباً على سؤال قُدّم إليه من بعض رجاله المجاهدين عن الجهاد والهجرة الشرعية، ومن أقواله في هذا الجواب قوله أن من يأمن المعتدين من الكفار ويثق بمواثيقهم وعهودهم إما أن يكون أحمق أو ضعيف الإيمان والعقل. وهل نسي أكاذيب قادتهم وادّعاء كلوزيل أنه انتصر على الأمير، وأن الأمير فرّ إلى الصحراء فكانت جنوده تتحدث عنه بخجل في معسكراتهم؟ وهل نسي أكاذيب بيجو التي غسل فيها دماغ السلطان عبد الرحمن؟ وهل يمكن أن ينسى وهو ممسك بالقلم يكتب أن الإفرنسيين بيت ملك قديم عُرفوا بالانضباط والوفاء، يعني حضارة قديمة. ونسي ما فعله هؤلاء أصحاب الملك القديم بالأطفال والنساء ورجال غير محاربين من قبائل بني يحيى حينما سمعوا أن الجيش الإفرنسي على مسافة من قبيلتهم فزعوا ودخلوا غار في الجبل الغريب منهم يعرف بغار العقبة البيضاء وكانوا أكثر من خمسمائة، ولما وصل قائد الحملة إلى القرب من الغار سمع أصوات الأطفال فأمر جنوده بجمع الحطب والتبن والأعشاب اليابسة وأغلقوا بها باب الغار وأشعلوا النار في هذه المواد ومات كل من في الغار حرقاً و اختناقاً بالدخان ولم ينج أحد.
من غير شك أن الذي كتب على لسان الأمير هذا المديح للإفرنسيين الذي وصل إلى درجة النفاق وجعله رجل منافق أو جاهل أو مصاب بفقدان الذاكرة هو ضابط إفرنسي تعلم العربية أو أحد أفراد القبائل المتعاونة معهم كلف بهذه المهمة كان يتقن الكتابة بالعربية ولكنه نشأ في بيئة شعبية فلم يستطع التخلص من اللهجة السوقية العامية التي اعتاد التكلم بها وهذا بسبب كثرة الكلمات العامية في المخطوط والأسلوب الركيك.
وكيف يمتدح الرومان والإفرنسيين وهو يعلم بتاريخهم القديم والحديث ويقول عنهم ما كتب عن لسانه في هذا المخطوط؟ ومن غير المعقول أن لا يعلم الأمير قصة حرق مكتبة الاسكندرية التي اتهم بها سيدنا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ظلماً وعدواناً لأن كتاب الفريد بتلر كان في مكتبته حينما وصل إلى دمشق وقد قرأته بنفسي كان في مكتبة جدي في مزرعتنا في حوش بلاس وقرأت فيه ما خلاصته أن حنا النحوي الذي نقل عن لسانه أن عمر بن العاص أحرق مكتبة البطالسة أثناء فتحه لمدينة الاسكندرية اكتشف بتلر أن هذا الرجل حنا النحوي مات قبل دخول العرب إلى مصر بمئة وخمسة عشر عاماً وأثبت صحة معلوماته بالأدلة والبراهين العلمية وأن من قام بهذا العمل الهمجي هم الرومان أي قيصر الروم.
وذكر أن هذا العمل الشائن الوحشي قام به الامبراطور الروماني عام 48 ميلادي حينما ذهب غازياً لمدينة الاسكندرية فوجد مقاومة من السفن الراسية في المرفأ وكانت سفن بدائية من الخشب فأمر بحرقها فامتدت النيران إلى الساحل والأبنية، منها تلك المكتبة الهائلة التي جمع فيها البطالسة مئات الآلاف من المخطوطات الثمينة كتاب بجميع العلوم واستشهد بتلر بكلام قدماء المؤرخين كالمؤرخ ديوكاسيوس والمؤرخ أمانيوس والمؤرخ أورسيوس وغيرهم والكل ذكروا أن قيصر الروم حرق تلك المكتبة التي حوت على 700 ألف مخطوط.
ودخول عمر بن العاص إلى الاسكندرية كان عام 641 ميلادي يعني ما يقارب 500 عام بين حرقها وبين دخول العرب إليها. ولاحظت في كتاب فتح العرب لمصر لحنا النقيوسي مؤرخ ذلك العصر مبالغة في وصفه للمعارك التي دارت بين العرب والرومان وقوله أنهم بعد دخولهم إلى المدينة قتلوا عائلة أقرباء تيودور القائد الروماني من الأطفال والنساء وهذا غير صحيح ربما لأنه لم يكن على اطّلاع بأخلاق العرب المسلمين المحرم عليهم قتل الأطفال والنساء وقطع الأشجار المثمرة ولا حرق بيوت السكان العامرة محرم عليهم ذلك وعمر بن العاص وجميع الفاتحون تمسكوا بقوانين الحرب في الإسلام وهو جديد عهد بها لا يمكنه تجاوزها ولكن المؤرخ القبطي بعد أن تعرف على العرب الفاتحين كتب الكثير عن عدلهم وفرح المسيحيين بهم وعن مظالم الرومان وبطشهم هذه الكتب التي وجدت في مكتبة الأمير وكان يحملها معه أين ما ذهب وحملت إلي عن طريق الإرث قرأتها ولا بد أن الأمير ويقيناً كان قد قرأها في الجزائر أو في سجنه. وأما معلومات تلك الحقبة من تاريخ دولته ومقاومته فليست حكراً عليه.
ولا أدري هنا لماذا تميل بنا ثقافتنا نحو كل ما يقدم لنا من محتلي بلادنا سابقاً من الإفرنسيين، فنأخذه بكل تقديس واهتمام من غير دراسة و تفكير مثلاً نستقبل راية مزعومة من يد أعدائنا باحتفال كبير ويرحّب بهذا المخطوط ويُحتفل به من غير دراسة أو شكوك؟ ونظل نراوح ضمن القيود التي وضعوها لنا والتي تحدد خطانا وثقافتنا بصورة خاصة ما نقدمه لأطفالنا كغذاء عقلي؟ ونتغافل عن المجال الفسيح أمامنا من التحليل و القياس و مجال التفكير الواسع بالتفتيش عن المصدر و الأسباب ربما نجد من هذه الأسباب المغرضة وهو إدراك العدو سابقاً الذي صاغ هذا المخطوط، الشعبية الكبيرة في الجزائر و العالم لهذا المجاهد الكبير وقوة تأثيره على الشعب و بصورة خاصة القيم الإسلامية التي جسّدها والتي كانت من خصائصه ولم يكتفوا بسيناريو خروجه من الجزائر والقول استسلم وإنما أرادوا التأكيد على ما خططوا له والدليل هو في نماذج رسائلهم التي كانوا يتراسلون بها، ذكر الكاتب عيسى المسعودي في مقدمته لكتاب تاريخ الأمير عبد القادر ص58 أن بيجو بعد أن فقد في إحدى المعارك 3500 جندي خرج ما يقرب من 500 جندي في معسكره يهتفون بسقوط فكرة احتلال الجزائر. والأدلة كثيرة على نماذج من تفكير هؤلاء المعتدين وذكر الكثير من المؤرخين أن بيجو حفظ عن ظهر قلب عدد تلك المعارك التي هزم فيها أمام الأمير عبد القادر وكتب عن المعارك التي هزم فيها الجزائريون الإفرنسيين، ومنها معركة بليده ورأس العين ثم المقطع وخنق النطاح ومئات غيرها إلى معركة سيدي ابراهيم والغزوات وعشرات المعارك التي هزم فيها جنوده شر الهزائم، وكم من المرات استغاث بيجو وغيره وطلبوا الإمدادات من فرنسا من الجنرالات كدي ميشيل وتريزيل والكونت دورليان والجنرال باراكواي والجنرال بيجو الذي عزل أكثر من مرة ثم عاد ليجرب حظه ويثأر ويأمل في كسب أي انتصار ولكنه فشل وعجز لذلك لجأ إلى تلك الخطة الخبيثة فلعب بعقل سلطان المغرب وأثار في نفسه الشكوك وزرع في ذهنه أن لعبد القادر طموحات في عرشه. وقدّم له الأدلة من محبة الشعب المغربي لعبد القادر والهتاف باسمه في المظاهرات وحينما اقتنع السلطان بخطر طموحات عبد القادر على عرشه وطلب منه بيجو محاربته وإغلاق الحدود في وجهه وملاحقة قواته عسكرياً إلى أن تمكن عام 1844 من عقد اتفاق رسمي مع السلطان نص على فتح جبهة أمام الأمير ومحاصرته عسكرياً واقتصادياً بالدرجة الأولى. وسمح لنفسه هذا السفاح بيجو بجعل السلطان يغلق في وجه المقاومة الحدود التي كانت الرئة التي تتنفس منها المقاومة ضد الاحتلال، وجبهة يقتل فيها الأخ أخيه من تلك القبائل المجاورة لأن جيش السلطان مكوّن من شباب القبائل التي قسم منها جزائري يقاتل تحت قيادة الأمير مثلاً قبائل بني سناسن منها قسم جزائري وقسم مراكشي وهذه التقسيمات هي اجنبية استعمارية، هذا ما جعل الأمير عبد القادر يوقف تلك المهازل ويقرر الهجرة لأنه المقصود من قبل السلطان فعقد اتفاقية هجرة مع ممثلي الدولة المعتدية المحتلة، اتفاقية رسمية على عدم منعه من مغادرة الجزائر هو ومن معه ولكن فرنسا غدرت به واختطفته وأخذته سجيناً إلى فرنسا هو ومن معه من عائلته وأتباعه إلى قصر امبواز في فرنسا.
هذه المعلومات الموثّقة المعروفة التي لا يستطيع أحد أن ينكرها يؤخد عليّ ويعاب عليّ من بعض الجاهلين تكرارها في مؤلفاتي ولا يدركون كم في الإعادة إفادة أي فائدة المتعة. أذكر أن زوجي العميد عدنان وهو ضابط عسكري قال لي أنه قرأ معركة المقطع في كتابي ناصر الدين أربع مرات وأنه وجد متعة كبيرة بإعادة قراءتها، فالقارئ الذي يجد أنه قد سبق له قراءة هذه المعلومة له حرية قلب الصفحة أو الصفحات، وهذا ليس فيه إزعاج، ومن يريد التمتع بالإعادة له ملئ الحرية أيضاً. وهنا لا أعتقد في ما أكتب تكراراً أو إعادة لأنه لأول مرة أكتب ما قاله جيمس بيكر وزير الخارجية الأميريكي في عهد جورج بوش الأب أثناء حرب الخليج الثانية، ذكر في أحد خطاباته أن هذه الحرب قد قضت على عزة العرب النفسية لدى المسلمين. قالها بتعالي وتفاخر لأنهم استطاعوا جعل دول عربية تشاركهم بقتال دولة عربية وهي العراق. هذا ما يحلمون به ويخططون له وهو تدمير كرامة العرب والمسلمين وبصورة خاصة الجزائريين الذين انتصروا عليهم ومرّغوا أنوفهم في الوحل وتراب الجزائر أمام العالم، لذلك أكثر مؤرخيهم عملوا على الانتقام والثأر بأقلامهم بعد فشل دولتهم عسكريّاً فحملوا القلم بدل السلاح الناري لذلك تراهم يبذلون كل الجهد ولا يتركون فرصة يرونها مجدية من غير استغلالها لتجريد الأمير عبد القادر من هويته الحقيقية، وتقديمه كما ذكر الدكتور محمد العربي الزبيري في كتابه (الكفاح المسلح) تارة يجعله في مؤلفاتهم في صورة الوفي الصديق لفرنسا، وأحياناً في لون المقاتل البطل الذي هزمه بيجو فاستسلم وألقى سلاحه لهم. ويحاولون إحاطة تاريخ هذا البطل بكثير من الشكوك و الشبهات والقفز فوق الأحداث مما يؤدي في النهاية إلى تمجيد فرنسا والمسيحية ومحاولة زرع مشاعر الدونية في أعماق الشعب الجزائري أمام عظمة فرنسا وحضارتها.
وحينما وجد أمثال الدكتور الزبيري من المؤرخين أو المثقفين الوطنيين بعد الاستقلال أن عليهم تصحيح الأوضاع التاريخية لبلادهم لأنهم يعتبرون ثورة الأمير عبد القادر هي نقطة الارتكاز لجميع الثورات، وآخرها ثورة نوفمبر التي تحقق فيها الاستقلال والتي أثبتت أمام العالم كما يذكر الدكتور الزبيري في الصفحة التاسعة من كتابه (أن الشعب الجزائري شعب يعتز بحضارته العربية الإسلامية ويفخر برموز أمته وأنه استطاع أن يلد رجالاً دوّخوا الغزاة المعتدين في سائر مراحل جهادهم، ومن استحق عن جدارة من أولئك الأبطال هو من لقّب بناصر الدين عبد القادر بن محي الدين الأمير البطل)، حينما أرادوا التصحيح صُدموا بمعارضة قوية من بعض ولا أقول الكل من بعض خريجي السوريين في باريس لأن منهم الدكتور عبد الكريم بوصفصاف الذي لم يتأثر بالثقافة الغربية وظلّ وطننا حراً أبيّاً. ثم يتابع الدكتور في الصفحة قوله: ولا يتحقق هذا التصحيح إلا بتخليص الباحثين الجزائريين ولجان التصحيح من مركب النقص الذي زرعه المستعمر في نفوسهم من الأكاذيب وإذا تحولت العقول الوطنية من عقلية تركن إلى التبعية ولا تنفر من المساس بكرامتها ولا تعتقد أن الاستسلام للأقوى مهما كان هو بطولة، وتتخلص من هذا الاعتقاد الخاطئ الخطير الذي لا يوصل إلى تحقيق ثقافي سليم. ويتابع الدكتور الزبيري قوله في كتابه (الكفاح المسلح): لأن الثقافة الأجنبية التي سهلنا لها غزو دورنا قد شلت ذهنياتنا وقضت على روح المقاومة فينا بسبب تقبلنا لكل ما يقدم إلينا من الأعداء لأمتنا، ونحن غير مسلحين بثقافة وطنية أصيلة وسليمة.
أولاً: ومع الأسف من الأسباب التي جعلت الكتب المدرسية يدّرس فيها الأكاذيب هو إشراف الكتاب الإفرنسيين ممثلي الاستعمار أو الاستعباد سابقاً في بلادنا بعد الاستقلال أمثال برينواتيان وأمثاله من الحاقدين على الشعب الجزائري هم من أشرف على المنظومة التربوية في الجزائر بعد الاستقلال. ولا أدري من سمح لهم بتشويه تاريخ رموز كفاحنا وكيف سمح لهم بالإشراف على المنظومة التربوية في بلادنا وهم من دولة كانت معادية لنا محتلة لبلادنا قبل أسابيع، وتركهم يكتبون ما يريدون عن الأمير عبد القادر الذي قاتلهم سبعة عشر عاماً والذي قاد مقاومة ضد احتلالهم، الذي كتب لزوجته ذات مرة قصيدة قال لها فيها رد على رسالة عتاب وصلته منها فقال:
ألم تعلمي، يا ربة الخِدر، أنني*** أجلِّي هموم القوم في يوم تجوالي!
وأغشى مضيق الموت لا متهيباً*** وأحمي نساء القوم في يوم تهوالِ
وأبذل يوم الرَّوع نفساً كريمةً*** على أنها في السلم أغلى من الغالي
وعنّي سَلي جيش الفرنسيس تعلمي***بأن مناياهم بسيفي وعسّالي
سلي الليل عني كم شققت أديمه*** على ضامر الجنبين معتدلٍ عالِ
سلي البيد عني والمفاوز والربى*** وسهلاً وحَزناً كم طويت بترحالي
فما همي إلا مقارعة العدا*** وهزمي طغاةً شداداً بأبطالي
هذا الرجل الجزائري الذي حمل لمدة عشرين عاماً بالتحديد مسؤولية مقاومتهم، وكان همه الانتصار عليهم وطردهم من بلاده كما كتب لزوجته في هذه القصيدة التي اقتطعت منها هذه الأبيات. فهل من المقبول أو المعقول ترك الإشراف على كتابة تاريخه إلى أعداءه إن كانوا كتّاباً أو مفكرين أو مؤرخين؟ ويكتبون لأطفال بلاده أنه اضطر للاستسلام أمام قوات بيجو العسكرية التي يفخرون بها، وهي سياسة الأرض المحروقة، وأنهم انتصروا عليه وأفقدوه معظم قادة جيشه فاستسلم إليهم، فأخذوه سجيناً إلى فرنسا ثم نفوه إلى دمشق. هذا ما كتبوه في الكتب المقررة التي يدرسها أطفال بلاده في الصف السادس الابتدائي، وتركوا لخيال الطفل ببراءة يتساءل ويجيب، مثلاً: لماذا لم يحارب حتى يموت ما دام شجاعاً كما ذكروا في الصفحة التي سبقت ما قالوه أنه فائق الشجاعة؟ لماذا سلّم نفسه إلى أعدائه وهم يعلم أنهم ممكن أن يقتلوه أو ربما يذلّوه؟ ويجيب الطفل نفسه على هذا السؤال البريء ويقول لنفسه: أكيد كان يثق بالإفرنسيين لأنه تعامل معهم وخبر أخلاقهم الحضارية الراقية، ثم يقول بينه وبين نفسه هامساً: ماذا استفاد من حربه لهم؟ لقد هزموه واضطر إلى الاستسلام، ألم يكن من الأفضل له عدم محاربتهم؟ إنه رجل غير عاقل ولا شجاع كما وصفوه؛ لا أحبه... وطفل آخر يشعر بالدونية لأن من يتكلمون عنه في هذه الصفحات هو جزائري كأبيه وعمه وجدّه، فيشعر بالخجل والدونية بشكل لا إرادي، وهذا بالتحديد ما أرادوا زرعه في أذهان أطفالنا (والعلم في الصغر كالنقش على حجر)، فإما الإعجاب بفرنسا أو بمشاعر الذل والدونية أو الاثنين معاً. وهم أبرع من خطط من المستعمرين، حتى مفكّريهم وشعرائهم كفكتور هيجو، لم تخلُ قصيدة لهم من التعالي والفخر بحضارتهم، وهي صفات ورثوها عن أجدادهم الرومان، كما قال جيمس بيكر: ((الوصول إلى تدمير عزة العربي والقضاء على مشاعر الكرامة لديه)). كما ذكر الدكتور الزبيري في كتابه (الكفاح المسلّح) عن رسالة أرسلها الجنرال نوارول إلى دي ميشيل أثناء الهدنة مع الأمير أشار عليه فيها بخلق صعوبات أمام الأمير ترغمه على الاعتراف بفرنسا كحماية على الأقل ولا يسمح له بمعاملتنا كأنداد، ويعوده على اعتبار نفسه تابعاً لنا أو مندوباً عاملاً في حكومتنا، لا أميراً مستقلاً عنا يتعامل معنا على قدم المساواة. هذه الرسالة تحمل تاريخ 28 جوان سنة 1834، كوكمبوت، ص 135. من خلال هذه الرسالة ومثيلاتها يُفهم منها كيف يفكرون وينظرون إلى أنفسهم وإلى أصحاب البلاد التي دخلوها، كيف ينظرون إلى كل ما هو غير أوروبي، وكيف يجب أن يصبح تابعاً لهم. هذا ما ورثوه عن جدودهم، وجذور نبتة تعود إلى عصر الإغريق ثم الرومان التي ورثوا عنها النظم والخصائص والنزعات المادية وتقديس القوة العسكرية والشعور بالفوقية على بقية البشر والرغبات الجامحة بالسيطرة على الشعوب لتحقيق رفاهية شعوبهم من أبّهة ومبالغة في الترف والثراء.
لقد صدق الدكتور العربي الزبيري كالطبيب الذي يضع يده على سبب الألم حيث منذ العصر الذي يسمونه عصر النهضة الصناعية في أوروبا التي تعود إليها الحضارة الأوروبية، عمدت هذه الحضارة إلى نهب القارات الثلاث، وما تزال تزداد جبروتاً واستعباداً، وفرضت التخلّف فرضاً بالقوة وليس بالأسلحة النارية فقط وإنما في أقلام الكتّاب والغزو الفكري بعد أن يُطوى الغزو العسكري، أولاً قرر الكاتب الإفرنسي برونو اتيان وأمثاله بالإشراف على المنظومة التربوية بعد الاستقلال وسحب فرنسا لقواتها العسكرية من بلادنا وأدركوا أن مصالحهم تقتضي تدمير سمعة هذا المجاهد الأمير أولاً بالقضاء عليها بشتى الطرق والأساليب لأنه رمز، وأول زعيم حاربهم، وكذلك تاريخ هذا القائد الذي يجب أن يكون قدوة، كما يريدون أن تكون هذه القدوة بالعمل على إزالة هيبته والتشكيك بسلوكه وأقواله لدى الشعب والعمل على القيام بمذبحة معنوية لكل تاريخه الديني والوطني واللغوي والأدبي وهدم تلك الهيبة وتحويلها إلى القدوة التي يريدون نشرها بين الشعب الجزائري وبقية الأمم وبعملية غسل دماغ فنية لشباب أمتنا ومفكريها فيجعلون الأمير ثانياً في هذا المخطوط يصادق في سجنه حارسه الفرنسي القبطان صاحب الطلب ويذكرون في هذا المخطوط على لسان الأمير ما يريدون منه قوله وأول ما يرغبون فيه هو المديح لهم والثناء عليهم كدولة فرنسية وشعب عظيم، ووصفه لهم بأنهم "بيت ملك قديم" وأهل وفاء وكرم...الخ من كلمات المديح ثم الاعتراف منه بفضلهم عليه، ثم يجعلونه يصادق حراس سجنه الفرنسيين لدرجة يتجرأ أحدهم ليطلب منه كتابة سيرة حياته الذاتية ويقدمها له وأخيراً رماها هذا القبطان السجان بين الأخشاب ليجدها بعد قرن ونيف من الزمن جاك شوفاليه([5]) عن طريق المصادفة كما يقول.
وإذا تركنا كل هذه الأمور جانباً التي تجرح مصداقية هذا المخطوط ألا يحق للقارئ السؤال عن اللغة التي كان يتحدث بها الأمير مع رفاقه السجانين كما زعموا ويتفاهم معهم وهو لا يعرف الفرنسية وأيضاً لا يتكلم باللهجات العامية لأن ثقافته لم تكن على مستوى القرية كما ظن أحد من الذين حققوا هذا المخطوط والقيطنة التي نشأ فيها ليست قرية وإنما كانت مزرعة موروثة عن أجداده فيها معهد كان قد درس فيه والده وأعمامه جميع العلوم الإنسانية وليس زاوية وثقافته كانت على متسوى عالٍ والدليل قصائده الشعرية وثقافته ثقافة جامعات ومعاهد في وهران وفاس ومعهد القيطنة ليس زاوية في قرية لأن القيطنة كانت مزرعة لأجداده والقرية تخطها الدول وليس الأفراد كالمزرعة. وذكر المحققون من المفكرين الجزائريين أن الأمير كتب بهذه اللغة الركيكة المشوهة ليجعل حراسه يفهمونها. هل هذا يعقل؟ أن يخفض رجل مثله من مستوى لغته من أجل أن يفهمها غيره وهل ليس لديهم مترجمين؟ إن كان هو أو التهامي، وهو عالم أيضاً باللكنة العربية الذين زعموا أنه شارك في هذا المخطوط. فهل يمكن أن يستبدل كلمة الشريف بالمشروف، ومئات الكلمات السوقية؟ ويترك لغته العربية الجميلة التي يكتب بها قصائده الشعرية ويتكلم بها وهل يستطيع هو أو أي إنسان بمستواه الثقافي والاجتماعي من التكلم بهذه اللهجة العامية المتخلّفة ويكتب بهذه الركاكة ويسيء إلى لغته العظيمة الراقية لغة القرآن كلام الله من أجل أن يفهمها حراس سجنه القبطان الفرنسي وهل لا يوجد لديهم ترجمان ثم يتّهمون الأمير بهذا المخطوط وينسبون إليه بأنه خاطب سلطان المغرب بقوله: مولاي، وأنه أمر أن يذكر اسمه في خطبة المساجد بعد اسم السلطان!! وكثير من هذه الأكاذيب التي ترفع شأن السلطان وشأنهم.
الدليل على أن هذه الأسطر كاذبة لأن الأمير بويِع على الحكم وقيادة المقاومة من الشعب بجمع قبائله، فهل يحق له مبايعة غيره؟ ولماذا يبايع السلطان؟ هل لأنه ضعيف ولا يستطيع تحمل تلك المسؤولية ويريد من سلطان المغرب حكم الجزائر وذكر اسمه في خطبة المساجد كي يحترمه الشعب الجزائري ولا يحترمونه هو ولا النظام الذي وضعه للدولة الجزائرية التي أقامها ..هل يعقل؟ والدليل على أن هذا المخطوط مفبرك، نعود لنقول:
أولاً: لأن الشعب اختاره هو وتمت له المبايعة.
ثانياً: وهو الأهم، أن الشريعة الإسلامية التي اتخذها دستوراً لدولته حرّمت وضع السلطة العليا في يد رجلين في آن واحد في الحديث الشريف الصحيح منعاً للتفرقة والفتن. والأمير كان عالماً وفقهيّاً.
ثالثاً: ولسطان المغرب سياسته الخاصة ونظامه السلطاني الملكي الخاص منذ عصور، أما الجزائر فكانت جزءاً من دولة الخلافة الإسلامية العثمانية. والأمير فوراً بعد مبايعته أقام ولا أقول أسس لأن الجزائر كانت قبل الاحتلال لها كل مقومات الدول التي كانت جزء من الامبراطورية الاسلامية العثمانية دولة حضارية اسلامية دولة مؤسسات وضع لها نظام خاص مرتبط بالدولة العثمانية روحياً فقط وليس مرتبطاً بالسلطنة المراكشية أو بنظامها لا سياسياً ولا روحياً، وهو أمر تاريخي موثق.
[1]- سورة الروم، الآية الرابعة
[2] - سورة المائدة، آية 72 و 73
[3]- سورة المائدة، آية 82
[4]- سورة الأنفال، آية 45
[5]- جاك شوفالييه كان رئيس بلدية مدينة الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي. وهنري تيسيه هو كردينال أب حبر الكنيسة في مدينة الجزائر.