عنوان الموضوع : الحلقة الثالثة ::ابنة الصديق وزوجة الحبيب في الدنيا والآخرة ،عائشة رضي الله عنها:2) لحواء
مقدم من طرف منتديات العندليب
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
معكم احبتنا نكمل سيرة امنا أم المؤمنين عائشة بنت ابي بكر رضي الله عنها و أرضاها و المزيد من العمل و العلم و التضحية و العطاء في حياتها الزاخرة بالمحافل و المكارم ..
فهيا إلى معرفتها عن قرب ..
:: مكانتها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم ::
لقد كانت عائشة رضي الله عنها تحتل مكانة عالية في قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم ،،فهو لم يتزوج بكرا سواها ، وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به ، بحيث إن عمرو بن العاص وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : عائشة ، قال : فمن الرجال ؟ قال : أبوها
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، من أحب الناس إليك ؟ قال : ولم ؟قلت : لأحب ما تحب ، قال : عائشة ..
وعنها رضي الله عنها قالت : كنت أشرب وأنا حائض ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب وأتعرق العرق وأنا حائض قم أناوله صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ ..
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه فطارت القرعة على عائشة وحفصة فخرجتا معه جميعا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث معها فقالت حفصة لعائشة : ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر ؟ قالت : بلى فركبت عائشة على بعير حفصة ، وركبت حفصة على بعير عائشة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم ثم سار معها حتى نزلوا فافتقدته عائشة فغارت ، فلما نزلوا جعلت رجلها بين الإذخر وتقول : يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني . رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا
:: ما أهجر إلا إسمك ::
و يا لها من صفحة بماركة ترسم لنا أدب الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما و توضح لنا مدى حبها للحبيب صلى الله عليه و سلم
عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (( إني لأعلم إذا كنت عني راضية و إذا كنت علي غضبى )) قالت : فقلت : و من أين تعرف ذلك ؟؟ فقال (( أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا و رب محمد ! و إذا كنت غضبى , قلت لا و رب إبراهيم )) قالت : قلت أجل و الله يا رسول الله ! ما أهجر إلا إسمك.
:: خلال لم تكن لأحد غيرها ::
و عن عائشة قالت : خلال فيً سبع لم تكن في أحد من النساء إلا ما أتى الله مريم بنت عمران و الله ما أقول هذا فخرا على أحد من صواحبي فقال لها عبد الله بن صفوان : و ما هن يا أم المؤمنين ؟ فقالت : نزل الملك بصورتي , و تزوجني رسول الله لسبع سنين , و أهديت إليه لتسع سنين , و تزوجني بكرا , و لم يشركه في أحد من الناس , و كان الوحي يأتيه و أنا و هو في لحاف واحد.
قالت و كنت أحب الناس إليه و بنت أحب الناس إليه وقد نزل فيً آيات من القرآن وقد كادت الأمة تهلك فيً , و رأيت جبريل و لم يره أحد من نسائه غيري و قبض في بيتي و لم يله أحد غيري و قوي الملك
:: زهد عائشة رضي الله عنها و إنفاقها ::
لقد نشأت عائشة في بيت أبيها الصديق رضي الله عنهما فتعلمت الزهد منه.. نعم و الله فهو الذي جعل ماله كله لله و لم يتعلق قلبه لحظة واحدة بحطام الدنيا الزائل.
فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم _سيد الزاهدين_ بلغت عنده درجة الكمال في الزهد لأنها كانت ترى الزهد في حياة النبي في كل لحظة و رأت بعينيها كيف ترك رسول الله زهرة الحياة الدنيا و اختار ما عند الله جل و علا
و لقد عرضت على نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مفاتيحها و خزائنها لا ينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها و كره أن يحب ما أبغض خالقه او يرفع ما وضع مليكه , زواها الله عن الصالحين اختيارا و بسطها لأعدائه اغترارا أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟ و الله ما يظن ذلك إلا من كان قد نقص عقله و عجز رأيه.
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (( لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال و عندي منه شئ إلا شيئا أرصده لدَين.))
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم و ما في بيتي من شئ يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففنيَو عن عمرو بن الحارث أخي الجويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما قال: (( ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم عند موته دينارا و لا درهما و لا عبدا و لا أمة و لا شيئا إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها و سلحه و أرضا جعلها لابن السبيل صدقة))
و عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا : يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً فقال : (( ما لي و ما للدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح و تركها))
و عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبزٍ شعيرٍ يومين متتابعين حتى قبُض.
فلما تعايشت أم المؤمنين بقلبها و جوارحها مع زهد أبيها رضي الله عنه و زهد زوجها الحبيب صلى الله عليه و سلم كانت حياتها كلها صفحة ناصعة من الزهد في متاع الدنيا و زينتها و أصبح قلبها لا يتطلع إلا الى رضوان الله و جنته.
عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: ( ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة و أسماء , و جودهما مختلف : أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمت و أما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد) .
و عن عروة قال : ( كانت عائشة لا تمسك شيئا مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به).
في رواية لمسلم من حديث عائشة قالت جائتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة و رفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما فأعجبني شأنهما فذكرت الذي صنعت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال (( إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار)).
فيا لها من صفحة غالية من زهدها تعجز الكلمات عن وصفها بل و تتوارى منها خجلا و حياء لأن الكلمات كلها لو اجتمعت فلن تستطيع أن نعبر بها عن عظمة تلك الصفحة التي سطرتها أمنا عائشة رضي الله عنها على جبين التاريخ بسطور من نور
:: الصائمة العابدة ::
فقهت المرأة المسلمة عن الله أمره و تدبرت حقيقتها في الدنيا و مصيرها الى الآخرة فاستوحشت من فتنتها و تجافى جنبها عن مضجعها و تناءى قلبها من المطامع و ارتفعت همتها عن السفاسف فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية والهة .
ويتصدر هؤلاء العابدات نساء الصحابة _ رضي الله عنهم و عنهن_ و يتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين و آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم و على رأس هؤلاء أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها
قال القاسم : ((كانت عائشة تصوم الدهر))
و عن عروة أن عائشة كانت تسرد الصوم و عن القاسم ( أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر)
:: جهادكن الحج ::
و بلغ حرصها على كل ما يقربها من الله سبحانه و تعالى أن استأذّنت من الرسول صلى لله عليه وسلم أن يأذن لها بالجهاد في سبيل الله لكثرة ما سمعت عن فضائل الجهاد و المجاهدين.
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال : (( جهادكن الحج)).
و على الرغم من ذلك كانت تصر على أن تشارك المجاهدين في أرض الشرف و الجهاد و أن تبذل ما في وسعها لنصرة هذا الدين العظيم.
:: صفحة من أرض الشرف و الجهاد ::
من البركات التي تضم إلى سيرة أم المؤمنين عائشة تلك الصفحات ذات الأريج المعطار التي خطتها في ساحات الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و قد كانت تشارك في الجهاد كأي امرأة دون تمييز و ذلك ضمن الحدود التي وضعها الشرع من سقاية الماء و تمريض الجرحى و إعداد الطعام...
ففي أحد كانت عائشة رضي الله عنها تشارك في حمل الماء على عاتقها لسقاية المجاهدين و كانت ما تزال صغيرة السن و لكنها شاركت للمرة الأولى في هذه الغزوة روى سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه مهمة أم المؤمنين في هذه الغزوة فقال:
و لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر , و أم سليم , و إنهما لمشمرتان , أرى خدم _ خلخال_ سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواههم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم.
و عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة بني المصطلق كانت عائشة ممن خرج سهمها فخرجت لتؤدي واجبها و و في هذه الغزوة امتحنت أمنا عائشة محنة من أشد و أقسى المحن , و لكن الله سبحانه و تعالى أدركها بعنايته و خرجت من المحنة بشهادة ربانية مباركة تتلى إلى يوم الدين في بيوت أذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه و في كل مكان و بيت عِلم على وجه الأرض.
:: هكذا فلتكن بيوت المسلمين ::
عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء عمي من الرضاعة يستأذن علي فأبيت أن آذن له حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما جاء رسول الله قلت: إن عمي من الرضاعة استأذن علي فأبيت أن آذن له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ((فليلج عليك عمك )) , فقلت : إنما أرضعتني امرأة !! و لم يرضعني الرجل , فقال : (( إنه عمك فليلج عليك ))
و هكذا فلتكن بيوت المسلمين فإننا نسمع عن المآسي و الجرائم التي تحدث في بيوت كثير من المسلمين بسبب عدم الالتزام بتعاليم هذا الدين العظيم الذي يوفر لنا حياة نظيفة طاهرة بعيدة عن الجرائم و الشبهات ليصبح المجتمع آمنا نظيفا طاهرا.
:: و تم تأويل الرؤيا ::
و من أجل و أعظم المكرمات التي حظيت بها أمنا عائشة رضي الله عنها أن حجرتها دفن فيها أعظم ثلاثة في تاريخ الأمة الإسلامية فكان أعظمهم جميعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي دفن في حجرتها ثم دفن أبو بكر ثم دفن عمر رضي الله عنهم جميعا.
و لقد رأت عائشة ذلك الفضل من قبل فقد قالت لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: رأيت كأن ثلاثة أقمار سقطن في حجري فقال لها : إن صدقت رؤياك دفن في بيتك ثلاثة من خير أهل الأرض فلما دفن النبي صلى الله عليه و سلم قال أبو بكر هذا أحد أقمارك و هو خيرها ثم دفن الثاني فكان أبو بكر نفسه ثم القمر الثالث فكان عمر رضي الله عنه و بهذا تم تأويل رؤيا عائشة من قبل و قد جعلها الله حقا.
:: عائشة رضي الله عنها و حياء يعجز القلم عن وصفه ::
إن المرأة المؤمنة بفطرتها النقية تستحي من أي رجل حتى لو كان زوجها فما ظنك بمن لا تستحي من الأحياء فحسب بل تستحي من الأموات!!
إنها أمنا الطاهرة التقية عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم واضعة ثوبي , و أقول : (( إنما هو زوجي و أبي )) فلما دفن عمر و الله ما دخلته إلا مشدودة على ثيابي حياء من عمر ))
:: حديث الإفك ::
إن الإبتلاء سنة ثابتة لا تتبدل و لا تتغير.. و لكن الإبتلاء الذي تعرضت له أمنا عائشة رضي الله عنها كان ابتلاء يفتت الصخور و الجبال و يعصف بالقلوب, فلقد اتهمت في أعز شئ تملكه المرأة اتهمت في عرضها ..إن هذا لهو البلاء العظيم..عائشة رضي الله عنها تتهم في عرضها و هي الزهرة النقية التقية التي نبتت في حقل الإسلام و سقيت بماء الوحي و رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهم في عرضه و هو القائم على صيانة حرمات الأمة و أعراض المسلمين ...و الصديق رضي الله عنه يتهم في عرض ابنته الغالية!!!
و كان لحديث الإفك وقع أليم على قلب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و مرت عليها و على البيت النبوي الطاهر و البيت البكري الصادق أوقات قاسية و حرجة امتدت الى شهر من الزمن حتى نزل القرآن الكريم بالبراءة للعفيفة الصديقة بنت الصديق , و تحمل هذه البراءة شهادة مباركة للمؤمن صفوان بن معطل الذي رمي بالحديث الآثم كما وسمت المنافقين بميسم الزور و البهتان الذي ظل يلاحقهم إلى النهاية..
فأنزل الله تعالى وحيه بالقرآن المجيد على رسوله الكريم محمد صلى الله عليه و سلم بما لم يكن لأحد في الحسبان حيث كان يظن أن يرى الرسول صلى الله عليه و سلم رؤيا منامية في تبرئة أطهر الطاهرات و أفقه الفقيهات أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
لكن الله أراد أن يجعل منها خصيصة ليرفع من شأن عائشة رضي الله عنها إظهارا لشرفها الذاتي و الاجتماعي و إنافة لمكانتها في أهل البيت طهرا و فضلا و شرفا.
:: المبرأة من فوق سبع سماوات ::
فتعالو بنا لنعرف القصة كاملة و نرى مكانة أمنا عائشة عند الله تعالى الذي أنزل براءتها من فوق سبع سماوات.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه , فايتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بعدما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك و قفل و دنونا من المدينة قافلين آذن ليلة الرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه .
و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت و هم يحسبون أني فيه و كان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل و ساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع و لا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به و ظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت و كان صفوان بن معطل السلمي ثم الذكواني من وراءه الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة و لا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك و كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك و لا أشعر بشيء من ذلك و هو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ثم ينصرف فذاك الذي يريبني و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع و هو متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا .
فانطلقت أنا و أم مسطح _ وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف و أمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق و ابنها مسطح بن أثاثة _ فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي و قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلت , أتسبين رجلا شهد بدرا ؟؟ قالت أي هنتاه او لم تسمعين ما قال؟ قالت: قلت : و ما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي و دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم تعني سلم ثم قال : كيف تيكم؟ فقلت أتأذن لي أن آتي أبوي قالت : و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت : فأذن لي رسول الله.
:: هموم و أحزان تفتت الجبال ::
قالت : فجئت أبواي , فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت : يا بنية هوني عليك , فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها و لها ضرائر إلا أكثرن عليها , قالت : فقلت : سبحان الله , أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن ابي طالب و أسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق اهله قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال : يا رسول الله أهلك و ما نعلم إلا خير.
و أما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك و النساء سواها كثير و إن تسأل الجارية تصدقك قالت فدعا رسول الله بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت بريرة : لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي سلول .
:: و الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ::
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه , إن كان من الأس ضربت عنقه , و إن كان من اخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك . قالت : فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله , لا تقتله ولا تقدر أن تقتله .
فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لتقتلنه فإنك و الله منافق تجادل عن المنافقين فتساور الحيان الأوس و الخزرج حتى هموا أن يقتتلوا و رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا و سكت.
قالت فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم
قالت فأصبح أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقا لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي قالت : بينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي.
:: كلمات تجعل القلب يبكي الدماء بدل الدموع ::
قالت : فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلم ثم جلس قالت و لم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله و سلم حين جلس ثم قال : أما بعد , يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا و كذا , فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه.
قالت فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال , قال : و الله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله . فقلت لأمي : أجيبي رسول الله قالت و الله ما أدري ما أقول لرسول الله قالت فقلت _و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن_ : إني و الله لقد سمعت هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به, فلئن قلت لكم إني بريئة _و الله يعلم أني منه بريئة_ لا تصدقوني بذلك و لئن اعترفت لكم بأمر _ والله يعلم أني منه بريئة _ لتصدقني. و الله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال(( فصبر جميل و الله المستعان على ما يصفون))
:: هكذا نزلت برائتها من فوق سبع سموات ::
قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت و أنا حينئذ أعلم أني بريئة و أن الله مبرئي ببرائتي, و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى و لَشَأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى و لكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرؤني الله بها ..قالت : فو الله ما رام رسول الله و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه.
فقالت : فلما سري عن رسول الله سري عنه و هو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها: يا عائشة , اما الله فقد برأك فقالت أمي: قومي إليه قالت فقلت : و الله لا أقوم إليه , و لا أحمد إلا الله تعالى .
و أنزل الله تعالى :
((إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) العشر آيات كلها
فلما أنزل الله تعالى في برائتي قال ابو بكر الصديق و كان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه و فقره : و الله لا ـنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله:
((وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))
قال أبو بكر : بلى و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع الى النفقة التي كان ينفق عليه و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا قالت عائشة: و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال : يا زينب ماذا عملت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله , أحمي سمعي و بصري , ما علمت إلا خيرا . قالت _ و هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع و طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلكت من أصحاب الإفك))
:: ساعات المحنة ::
عندما يقف الإنسان يتدبر معاني الآيات الكريمة التي برأت عائشة رضي الله عنها تجول في خاطره تلك الساعات التي مر بها البيت النبوي , و البيت البكري و كيف تلقى النبي صلى الله عليه و سلم هذا الخبر و كيف صبر رسول الله و آل أبي بكر تحت وطأة بلاء حديث الإفك؟!!
لقد لبث رسول الله تحت وطأة بلاء هذه المحنة القاسية صابرا صبرا لم يعرف في تاريخ النوازل و البلايا و الخطوب لأحد من قبله , و لا لأحد من بعده حتى نزلت آيات براءة عائشة رضي الله عنها بعد سبع و ثلاثين ليلة من بداية المحنة فقد بلغه صلى الله عليه و سلم حديث الإفك عند وصوله إلى المدينة بعد ظفره ببني المصطلق.
و ما بالك بحال آل أبي بكر ؟؟!
لم يكن حالهم أقل حزنا من حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم منذ بلغهم الإفك و ما تحدث به المنافقون و أتباعهم و هم يرزحون تحت فجيعة هذا البلاء العاصف , لا يدرون ما يقولون , و لا ما يفعلون , تلاحقهم النظرات المتنوعة من كل مكان و في كل مكان.
وصفت أم المؤمنين عائشة حالها و حال أبويها في أحرج لحظات البلاء التي أذابت فيهم عناصر الحركة النفسية و الفكرية تقول عائشة : و الله ما اعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الأيام.
:: إنها أعظم براءة ::
إن الله تعالى أبى أن يجعل براءتها مجرد بشرى يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم و يبلغها للأمة و لكنه جعل براءتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ليعلم الكون كله قدر أمنا الغالية عائشة رضي الله عنها
قال الإمام القرطبي في تفسيره :
قال بعض أهل التحقيق : إن يوسف _عليه السلام_ لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد , و إن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى _صلوات الله عليه _ و إن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي و لا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف و البهتان.
:: بركة عائشة و نزول آية التيمم ::
و من بركات أمنا الغالية عائشة رضي الله عنها أن الله تعالى أنزل بسببها آية التيمم تيسيرا على المسلمين ففرح المسلمون لذلك فرحا شديدا فيا لها من أم مباركة فاح عبير بركتها على كل من حولها من المسلمين.
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء _ أو بذات الجيش _ انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم على التماسه و أقام الناس معه و ليسوا على ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله و الناس ليسوا على ماء و ليس معهم ماء فجاء أبو بكر و رسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله و الناس ليسوا على ماء و ليسوا معهم ماء فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر ما شاء الله أن يقول و جعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه و سلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن خضير: ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير التي كنت عليه فأصبنا العقد تحته.
:: الإرهاصات و العلامات التي تشير على قرب وفاة رسول الله ::
إن الأحداث العظيمة يسبقها من الإرهاصات و العلامات التي تشير إلى قرب وقوعها و قد تم للمسلمين فتح مكة أم القرى في السنة الثامنة للهجرة و في السنة التاسعة أقبلت الوفود تقر بالإسلام أو تعطي الجزية عن يد و هم صاغرون , و أرهب جيش العسرة الذي خرج به النبي صلى الله عليه و سلم جحافل الروم حتى فروا من مواجهته , و دانت جزيرة العرب بالإسلام و كان ذلك بعد عشر سنين من جهاد النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته الكرام رضي الله عنهم فكل العلامات تشير إلى انتهاء مهمة رسول الله عليه الصلاة و السلام فقد بلغ الرسالة و أدى الأمانة و نصح الأمة و كشف الغمة فكان النبي صلى الله عليه و سلم يعرض بقرب أجله:
فمن ذلك ما رواه أحمد عن معاذ قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن خرج معه رسول الله يوصيه و معاذ راكب و رسول الله يمشي تحت راحلته فلما فرغ قال يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا و قبري فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال : (( إن أولى الناس بي المتقون من كانوا و حيث كانوا))
و خرج النبي صلى الله عليه و سلم للحج في السنة العاشرة و قال (( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا و طفق يودع الناس.))
و نزل عليه بعرفة:
((وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا))
و تروي لنا أمنا عائشة كيف بدأت شكوى رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت: رجع النبي ذات مرة من جنازة من البقيع فوجدني و أنا أجد صداعا و أنا أقول : وا رأساه قال: (( بل أنا يا عائشة وارأساه)) : قال : ((و ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك و كفنتك و صليت عليك و دفنتك)) فقلت : كـأني بك و الله لو فعلت ذلك لرجعت إلى بيتي فعرست فيه ببعض نسائك . قالت : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه)).
:: اللحظات الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ::
و خرج النبي في صبح اليوم الذي لحق فيه بالرفيق الأعلى ينظر إلى ثمرة جهاده و صبره فألقى على الصحابة الذين أحبوه و أحبهم نظرة وداع فكانوا يفتنون به ظنا أن قد عوفي من مرضه و لم يظنوا أنه ينظر إليهم نظرة الوداع حتى يلتقي بهم على حوضه و في جنة الله تعالى و لو علموا ذلك لتفطرت قلوبهم
عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : كان رسول الله يقول و هو صحيح : (( إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)) قالت عائشة فلما نزل برسول الله و رأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف . ثم قال : (( اللهم !الرفيق الأعلى )) قالت عائشة : قلت : إذا لا يختارنا , قالت عائشة : و عرفت الحديث الذي كان يحدثنا به و هو صحيح في قوله (( إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير)) . قالت عائشة فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه و سلم قوله : (( اللهم ! الرفيق الأعلى )).
و في رواية : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول : أين أنا غدا أين أنا غدا ؟ يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة حتى مات عندها قالت عائشة : فمات في اليوم الذي كان يدور على فيه في بيتي فقبضه الله و إن رأسه لبين نحري و سحري و خالط ريقه ريقي . ثم قالت : دخل عبد الرحمن بن أبي بكر و معه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله فقلت له : أعطني هذ السواك يا عبد الرحمن فأعطانيه فقضمته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستن به و هو مستند إلى صدري.
عن أنس رضي الله عنه قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء و ما نفضنا عن النبي لأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
و قال الحافظ ابن رجب رحمه الله لما توفي النبي اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخولط و منهم من أقعد فلم يطق القيام و منهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام و منهم من أنكر موته بالكلية و قال : إنما بعث إليه.
:: تجهيز جسد النبي ::
عن عائشة رضي الله عنها قالت لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه و سلم قالوا: و الله لا ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله و عليه ثيابه ؟ فلما اختلفوا ألقى الله تبارك و تعالى عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت _لا يدرى من هو _ أن اغسلوا النبي و عليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله فغسلوه و عليه قميصه يصبون الماء فوق القميص و يدلكون بالقميص دون أيديهم و كانت عائشة تقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه .
و كفن صلى الله عليه و سلم في ثلاثة أثواب سحولية بيضاء.و قد أجمع أهل العلم أنه توفي عن ثلاثة و ستين عاما قضى منها أربعين عاما قبل البعثة و ثلاثة عشر عاما بعد البعثة بمكة و عشر سنين في المدينة بعد الهجرة و كانت وفاته في ربيع من السنة الحادية عشرة من الهجرة و ما ترك دينارا و لا درهما و لا عبدا و لا أمة إلا بغلته التي كان يركبها و سلاحه و أرضا جعلها لابن السبيل صدقة فصلى الله عليه و آله و سلم تسليما .
:: الفقيهة الربانية التي حمل عنها ربع الشريعة ::
قال عز و جل مخاطبا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن:
((وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا))
و قال صلى الله عليه و سلم (( طلب العلم فريضة على كل مسلم))
وقد أحست المرأة نتيجة لهذا الحث بحاجتها الى العلم فذهبت الى النبي صلى الله عليه و سلم تطلب منه مجلسا خاصا بالنساء.
و عن عائشة رضي الله عنها قالت (( نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين))
و هذه أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر حبيبة رسول الله الفقيهة الربانية المبرأة من فوق سبع سماوات , لحق النبي بربه و هي لم تخط بعد إلى التاسعة عشرة على أنها ملأت أرجاء الأرض علما فهي في رواية الحديث نسيج وحدها و لم يكن بين أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم من كان أروى منها و من أبي هريرة رضي الله عنهما على أنها كانت أدق منه و أوثق.
قال الزهري : ((لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل))
و عن عروة بن الزبير قال : (( ما رأيت أحدا أعلم بفقه و لا بطب و لا بشعر من عائشة رضي الله عنها))
و قال مسروق: (( رأيت مشيخة أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض))
قال الحافظ أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب (( إيضاح ما لا يسع المحدث جهله )) (( اشتمل كتاب البخاري و مسلم على ألف حديث و مائتي حديث من الأحكام فروت عائشة من جملة الكتابين مائتين و نيفا و تسعين حديثا لم يخرج عن الأحكام منها إلا يسير ))
قال الحاكم أبو عبد الله : (( فحمل عنها ربع الشريعة))
و لقد كانت تزورها النساء في بيتها فتعلمهن.
:: ما ظنكم بأدب النبوة ::
لئن حلقت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عاليا في سماء العلم و رواية الحديث و في الزهد و الورع لقد حلقت في سماوات البلاغة و الفصاحة و بلغت ما لم تبلغه امرأة قط في عصر النبوة و لا في العصور بعدها
و لا شك بأن أمنا عائشة عليها سحائب الرضوان قد أسست على أساس متين من الفصاحة في البيت البكري فقد كان أبو بكر رضي الله عنه معروفا بفصاحته و معرفته الأنساب و أيام الناس ثم انتقلت من بيت أبيها إلى كنف رسول الله صلى الله عليه و سلم و صنعت على عينه فغدت تتأدب بأدبه و ترد موارد البيان القرآني فلا تكاد تقف على كلامها إلا و يتملكك العجب و يستولي عليك الإعجاب بروعته و بيانه و لا أدل على ذلك من رواياتها حديث الإفك الذي مر معنا فإنه قطعة أدبية نادرة في دنيا الأدب.
و الذي يبدو أن بلاغة عائشة كانت مضرب المثل
و ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : أنها كانت وحيدة عصرها في ثلاث علوم : علم الفقه , و علم الطب , و علم الشعر.
و لعل أدب أم المؤمنين عائشة و بلاغتها له رافد أيضا من خطب و شعر وفود العرب , فقد كانت حجرتها ملاصقة للمسجد النبوي الذي تأتيه وفود العرب من كل مكان فتسمع ما تجود به قرائحهم و تعي أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم و خطبه فيهم فلا عجب أن تحوز قصب السبق في ميدان البلاغة و الفصاحة.
:: علمها بالطب ::
كان عروة يقول لعائشة : يا أمتاه لا أعجب من فقهك , أقول : زوجة نبي الله و ابنة أبي بكر و لا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس , أقول : ابنة أبي بكر و كان أعلم الناس . و لكن أعجب من علمك بالطب كيف هو و من أين هو ,أو ما هو !
قال : فضربت على منكبه , و قالت : أي عرية , إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عند آخر عمره _أو في آخر عمره_ و كانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات و كنت أعالجها له , فمن ثم.
:: في ظل الخلافة الإسلامية ::
و ظلت أمنا عائشة بعد وفاة الحبيب على العهد صائمة قائمة عالمة بالكتاب و السنة يأتيها من كل حدب و صوب أهل العلم يقصدون أخذ العلم من نبعه الصافي فلقد كانت موسوعة نادرة لحديث النبي صلى الله عليه و سلم فكانت تُعلم الجاهل و تهدي الحائر و ترشد الناس إلى الفضائل و مكارم الأخلاق.
:: و جاءت سكرة الموت بالحق ::
و ها هي الأحزان تتجدد مرة أخرى بموت الصديق رضي الله عنه.
قالت عائشة رضي الله عنها : لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه دخلت عليه و هو يعالج ما يعالج الميت و نفسه في صدره فتمثلت هذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
فنظر إلي كالغضبان ثم قال : ليس كذلك يا أم المؤمنين و لكن قول الله أصدق
((وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ))
و استمر مرض أبو بكر خمسة عشر يوما حتى كان يوم الإثنين ليلة الثلاثاء في الثاني و العشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاثة عشرة للهجرة حيث توفي الصديق حبيب رسول الله و هو ابن ثلاثة و ستين سنة ...مجمع على ذلك في الروايات كلها , استوفى سن رسول الله صلى الله عليه و سلم
:: إيثار فوق الخيال ::
و بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه تولى عمر الإمارة فأصبح أمير المؤمنين و عاش المسلمون في عهده في ظل العدل و الرحمة و كانوا ينتقلون من نصر إلى نصر و تمر الأيام و يقتل عمر ليموت شهيدا كما أخبره بذلك الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
و في اللحظات الأخيرة من حياة الفاروق قال لإبنه : يا عبد الله بن عمر , انطلق إلى عائشة ام المؤمنين فقل : يقرأ عليك عمر السلام _ و لا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا _ و قل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه ..., فسلم فاستأذن , ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي , فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام , و يستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقال : كنت أريده لنفسي , و لأوثرنه به اليوم على نفسي .
فيا له من إيثار يفوق الخيال إنها تؤثره بأعز ما كانت تتمناه فرضي الله عنها و أرضاها.
:: و حان وقت الرحيل ::
و بعد هذه الرحلة الطويلة من العبادة و العلم و البذل و العطاء و التضحية لدين الله جل وعلا نامت الصديقة الطاهرة على فراش الموت بعدما ملأت الدنيا علما و فقها و زهدا و ورعا ..فلقد آن لأمنا الغالية أن تستريح و ان تبدأ رحلتها مع النعيم المقيم فهي زوجة الحبيب المصطفى في الدنيا و في الآخرة فهنيئا لها ثم هنيئا لها ثم هنيئا لها.
و في شهر رمضان من السنة الثامنة و الخمسين للهجرة , ألم المرض بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و كانت وصيتها أن تدفن بالبقيع مع صواحبها أمهات المؤمنين و آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و في ليلة ثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر رمضان , توفيت أم المؤمنين عائشة و صعدت روحها إلى بارئها راضية مرضية و لما سمعت أم المؤمنين أم سلمة الصرخة على عائشة قالت : و الله لقد كانت أحب الناس إلى رسول الله إلا أباها.
و دفنت من ليلتها بعد صلاة الوتر
و قدم أبو هريرة رضي الله عنه فصلى عليها فاجتمع الناس و نزل أهل العوالي و حضروا جنازتها فلم تر ليلة أكثر ناسا منها
ولا نملك و نحن نودع أمنا الغالية إلا أن نتلوا قوله تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
فرضي الله عنها و أرضاها و جعل جنة الفردوس مثواها
و إلى الحلقة القادمة مع أم المؤمنين بنت صاحب سيد المرسلين من أعز الله بإسلامه دين الحق و التوحيد
مع السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها و أرضاها
و ستكون معكم فيها أختي مجدولين
فانتظرونا....
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
شكرا اخي الكرييم على هذه السيرة الرائعة والنيرة جعلها الله لك في ميزان حسناتك
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
جزاك الله خيرا
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
رضي الله عنهم وعنا وجعل مسواهم الجنة جزاك الله خيرا فقد قرأتها بكل شوق وحنين إلى رسول الله وظزجته أحب الناس إليه وكنت اتمنى لو أنك أطلت علينا قليلا وأعلمتنا مما لا نعلمه عنها شكرا لك جعلها الله في ميزان حسناتك
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :