عنوان الموضوع : 4دروس فلسفية تهمك.....مفصلة بكالوريا ادبي
مقدم من طرف منتديات العندليب














4دروس فلسفية...مفصلة

د.سمير زيدان الجامعة اللبنانية – كلية التربية
مدرّب في المركز التربوي لأساتذة التعليم الثانوي



1-مبحث الذاكرة والتخيل

2-مبحث الإدراك و الاحساس


3-مبحث العلوم الاختبارية = ( التجريبية)

4-مبحث الرياضيات






1-مبحث الذاكرة والتخيل

الذاكرة هي وظيفة نفسية تحفظ المادي وتسترده في حدود فترة زمنية معينة. ويستوقفنا الكلام على الذاكرة للتأمل في معنى الزمان؛ فهو معنى ملازم لوجودنا نَقْدر على الإحساس به أكثر من تعريفه، لأنه يُعرَّف بذاته؛ فهو صيرورة وتغير وتقدم وقبل وبعد؛ وخاصيته الأساسية هي لا معكوسيته.

إن وجودنا الحاضر هو شعورنا بديمومتنا بين ماض انقضى ومستقبل منتظر. لكن الوعي من منطلق حاضره يسيطر على الماضي والمستقبل، فقد قال “هيدغر Heidegger” الإنسان هو كائن الأبعاد. فإنه يُسقط المستقبل في الحاضر، ويدمج الحاضر بالماضي، فتكون الديمومة مسرح التذكر والتخيل.

وتطارد الذاكرة أحداث الماضي المتقهقرة مضفية عليها نوعًا من الثباتية لتضعها تحت مجهر الوعي لتعرفها، لا لتعيشها من جديد.

وقد عرَّف “لالند Lalande” الذاكرة فقال: “إنها وظيفة نفسية تسترجع حالة وعيناها في الماضي مع علمنا أنها تخص الماضي فقط”. هذا يعني أننا في مجال التذكر نعيد صلتنا بماضينا ونعرف تمامًا أن هذا الماضي قد انتهى.



تثبيت الذكريات:

نحن لا نثبت جميع إدراكاتنا وتجاربنا، بل إن هذه العملية تخضع لخيار. ونتوقف عند نوعين من العوامل المؤثرة في تثبيت الذكريات: موضوعية وذاتية.


- العوامل الموضوعية:

يرى أنصار علم النفس الشكلي أن بنية الشيء أو الفعل هي التي تجعله من جملة الذكريات؛ فإن نغمًا موسيقيًا يثبت في الذاكرة أكثر من أصوات متنافرة وغير منتظمة؛ وتكون الأفضلية في الحفظ لقصيدة موزونة لا لسلسلة كلمات غير مفهومة وغير متلائمة، وباختصار فإن الشكل الأفضل والأكثر تأثيرًا في مسرح الإدراك هو الذي يثبت في الذاكرة.


- العوامل الذاتية:

إن قِيَم الأشياء، واستجابتها لرغباتنا وميولنا وثقافتنا هي التي تساعد بالفعل على تثبيت الأشياء في الذاكرة؛ فالنغم الموسيقي المنسجم، والصورة المنتظمة، والقصيدة الموزونة تثبت في الذاكرة بقدر ما تثير انفعالاتنا الغنية وأذواقنا وتتلاءم مع تجاربنا.

الواضح إذًا أن اكتساب الذكريات وتثبيتها ليس عملاً آليًا ولا مجرد إسقاط من الخارج للصورة الأقوى كما يدعي علماء النفس الشكلي، بل هو فعل حي مرتبط بعوامل شخصية. فليست الذاكرة كمستودع يصب فيه كل حادث من دون تمييز، بل هي فعل الشخص الذي يُرَكِّز الأحداث ويُثبِّت الصور والمواقف والكلمات من خلال حاجاته وهمومه وقيمه ومفاضلاته الواعية وغير الواعية.



مسألة اختزان الذكريات

نظرية ريبو:

يعتبر ريبو أن الذاكرة شأنها شأن سائر الأحداث النفسية هي ذات طبيعة فيزيولوجية. ولكن هل يمكن أن نرد الذاكرة إلى مسار فيزيولوجي؟

في كتابه المعروف بأمراض الذاكرة. يحاول “ريبو” أن يبرز القضايا الأساسية في الذاكرة وفي حفظ الذكريات فيقول أن الذاكرة بجوهرها حدث بيولوجي وبالعرض نفسي، معتمدًا في ذلك على أن الذاكرة مقيدة ومشروطة بالطرق العصبية وتغيراتها. فالذاكرة ترتد إذًا إلى قاعدة فيزيولوجية محضة. والذكريات تنتظم بالضبط على شكل أفعال نمارسها عبر العادة من خلال الاتصالات العصبية التي لا يضيف لها الوعي أية إضافة.

والذكرى حسب “ريبو” هي حدث عضوي وتختزن ماديًا وبصورة كاملة في الدماغ. فالذكرى هي إذًا أثر مادي، أما آلية التذكر وطريقته في تشبه آلية اشتغال الفونوغراف حيث تقوم الإبرة على الأسطوانة بايقاظ الأصوات التي تكون مخفية في الأثلام. ويعزّز ريبو طرحه من خلال شواهد مستقاة من أمراض الذاكرة: كل جرح دماغي يؤدي بالضرورة إلى فقدان الذكريات الخاصة بالمنطقة الدماغية المصابة. إن الجرح في منطقة بروكا، التلفيف الثالث من الجهة الدماغية اليسرى، يؤدي على سبيل المثال إلى اختفاء الذكريات الكلامية المحكية والمنطوقة.

بهذا الشكل فإن مختلف الذكريات السمعية والبصرية والحركية تتمركز جميعها في الدماغ بشكل محدد وفي مناطق خاصة بها. لذلك فقد ركزت نظرية ريبو على أن الذكرى تختزن على شكل أثر مادي في الدماغ. أما النسيان فهو الغياب الجزئي أو الكلي لهذه الآثار المادية.

نخلص من كل هذا على أن الذاكرة عند ريبو تتآلف مع العادة التي تتخذ أشكالاً أكثر أو أقل آلية. فالذاكرة تغرز بجذورها داخل الحياة العضوية.


نقد لنظرية ريبو:


دون أدنى شك، إن الجهاز العصبي يلعب دورًا مهمًا في عملية التذكر. لكن من واجبنا أن لا نقر بكل المسلمات الفيزيولوجية التي يطرحها ريبو لأن التجارب تبين أن الجرح الدماغي لا يتلف الذكرى بل يجعل إمكانية استدعاءها واسترجاعها مستحيلة.

والواقع أن تفسير عملية التذكر بالترابط الآلي على غرار العادة يبدو أمرًا مرفوضًا خاصة وأن البعض يرى أن العادة بحد ذاتها ليست آلية عمياء بل تتميز بشيء من المرونة. ومن هذا المنطلق في فهم العادة تصدى برغسون في كتابه المادة والذاكرة (matière et mémoire) للرد على نظرية ريبو المادية.


نظرية برغسون الروحانية:

ينتقد برغسون ريبو لأنه خلط بين الذاكرة والعادة: فالعادة هي تركيبة جسدية تابعة لارتباطات جسدية عصبية عضلية بينما الذاكرة الحقيقية هي شيء آخر. فأنا عندما أحفظ قصيدة عن ظهر قلب عبر التكرار فإن هذا هو فعل العادة. ولكن عندما أستدعي المراحل المختلفة التي مرّ بها تعلمي وحفظي للقصيدة، أي عندما أميز كل مرحلة من هذه المراحل بفردانيتها، فإن هذا يكون عين التذكر.

علينا أن نميز إذًا حسب برغسون، بين تعلم واكتساب الدرس الذي هو عادة، أي آلية تبرمج الجسد من خلال التكرار، وبين الذكرى لكل قراءة قرأناها على حدة، أي تلك الأفعال المتموضعة زمانًا وليس في الجسد. فالذكرى إذًا عند برغسون ليست في العمق سوى اللحظة الزمانية الفردانية الأصلية التي لا يصح نسبتها إلى وجودنا الحسي. فبينما العادة تستخدم الماضي فإن الذاكرة تتمثله وتتخيله بكل ملامح الماضي من دون علاقة مع الفعل. فالعادة هي فعل والذاكرة هي تأمل أي إعادة انبعاث الماضي.

ولكن أين وكيف تحفظ الذكريات؟

يتبنى برغسون دون تردد الموقف الروحاني وبالنسبة لهؤلاء الروحانيين فإن الطاقة الروحية هي حقيقة أو واقع لا يمكن تدميره، لذلك فإن برغسون يجعل الذاكرة من طبيعة روحانية شأنها في ذلك شأن الحياة النفسية الداخلية. وهي بالتالي غير قابلة للضياع أو للفقدان لأنها غير متمركزة في أي جزء من أجزاء الجسد. ينتج عن ذلك أن الماضي يحتفظ به كاملاً في الذاكرة: “فحياتنا الماضية حسب برغسون هي هناك، في موضع غير مادي، ولكنها محفوظة بكامل تفاصيلها”.

ولكن هل يتم اختزان الذكريات بصورة واعية أو لا واعية؟

يجيب برغسون أن اختزان الذكريات يتم بصورة لا واعية إذ أن الوعي لا يختص إلا بالحاضر. فكل ماضينا حسب برغسون يقبع في حالة اللاوعي، تحت شكل ذكريات محضة مجرّدة من المادة، إلاّ أن تحولها إلى حيز الفعل والوعي لا يتم إلا بمداخلة الجسد. فالجسد ليس هو الذي يحفظ أو يولد الذكريات، بل هو يؤمن الوسيلة لإلباسها لباسًا ماديًا، فيعمل على تثبيتها لتعود وتظهر إلى حيز الوعي.

إن نظرية برغسون هي أكثر ملاءمة مع علم الأمراض العصبية من نظرية ريبو. فمن واجبنا الاعتراف بأهمية التفسير الذي قدمه برغسون حين أكد عدم صلاحية ردّ الذاكرة إلى طبيعة فيزيولوجية محضة. لقد شدّد برغسون على الاختلاف البيّن ما بين العادة والذاكرة الحقيقية. لقد كان من الأوائل الذي بيّنوا أن الذكريات ليست مختزنة في الدماغ كما تختزن الكلمات في كتاب، وهذا ما أشاد به الدكتور دولاي (delay) بقوله: إن كل الأحداث التي نكتسبها تذهب لتوافق اتجاه الطرح البرغسوني.

بالرغم من ذلك لا بدّ من الإشارة إلى الصعوبات التي واجهتها نظرية “برغسون” وبالفعل فقد تم توجيه العديد من الانتقادات الجدّية لهذه النظرية. إن مفهوم ذكرى غير مادية روحانية صرفة خالصة يبقى مفهومًا ملتبسًا عند برغسون من خلال كتابه المادة والذاكرة (matière et mémoire).


نقد لنظرية برغسون:

إن ردّ الذكريات إلى اللاوعي (القمع المقلوب) لا يمكن أن يكون كافيًا. إن مفهوم ذكرى خالصة قابعة في اللاوعي ليس سوى شكل من أشكال الوهم التخيلي الذي يصعب القبول به. بكلام آخر فإن نظرية اختزان الذكريات كاملة في هذا اللاوعي تبدو تناقضية. فالتجربة الإنسانية تكذبها حيث أن قسمًا محدودًا من الذكريات يبقى في ذاكرتنا، بينما يضعف أو يتلاشى قسم آخر من هذه الذكريات. لذلك فإن فرضيته عن النسيان تبدو فرضية خاطئة إذ النسيان لا يرتد فقط إلى عدم إمكانية الاستعادة.

يلتقي برغسون وريبو في خطأ واحد هو أن الذكريات تحفظ كأشياء. فهي آثار مادية محفوظة في الدماغ على رأي ريبو، أو صور روحية محفوظة في لاوعي غير محدد حسب برغسون. وفي النظريتين تكون الذكريات كصور عن أحداث معاشة في الماضي. فهي باختصار انعكاسات سلبية أو بقايا إدراكاتنا السابقة.

ولقد قدمت الفلسفات المعاصرة حلاً مختلفًا حين أكدت أن ما يحتفظ به ليس (حالات الإدراكات السابقة) بل إن ما يحتفظ به يحمل صفة الحاضر وينطبع بطابعه مبتعدًا بذلك عن الماضي وهمومه.

يقول ميرلوبونتي: إن الإدراك المختزن يستمر في التواجد الحاضر ولا يفتح أمام الشخص أبعاد الهروب من الحاضر والغياب في طيات الماضي. لذلك فإن إشكالية حفظ الذكريات يبدو أنها مرفوضة جملة وتفصيلاً، وأن الذكريات لا يمكن بشكل من الأشكال أن تكون كأشياء مختزنة لا في الدماغ ولا في اللاوعي.


مسألة إعادة بناء الذكريات وتطورها:

انبعاث تلقائي؟ أم إعادة بناء من منظور الحاضر؟

إن علم النفس الحديث يقرّ بفضل الفلسفة الظواهرية التي تفسر الذكرى على أنها فعل. والفعل لا يحتفظ ولا يختزن. فالذكرى يُعاد بناؤها من منطلق اللحظة الحاضرة، حيث نعيش الحاضر ونعترف بالماضي أنه ماضينا الذي انقضى وولّى.

والاعتراف بامتلاك الماضي هو ما يميِّز الذاكرة. ولكي تكون الذكرى أصيلة لا يكفي أن يعاد إحياء الماضي، بل ينبغي الاعتراف بأن هذا الماضي قد مضى وانقضى. وهذا الاعتراف يظهر بأشكال متعددة أعلاها هو أن الماضي ليس معاشًا وتابعًا للعواطف عند الفرد بل هو تابع لمستوى العقل والفكر. فالتذكر هو فعل توليف (Synthèse) وتجميع عقلي.

وبالفعل فإن الإنسان يلقي بظلال شخصيته على المكان والزمان في آن معًا. هذا يعني أنه ليس بإمكاننا أن نعي ماضينا كما هو في واقعه بل نحن نعيه ونفهمه من خلال شخصيتنا، أي من تلك اللحظة التي نباشر فيها عملية استعادته.

وإذا ما اقتنعنا بوجهة علم النفس الحديث بأن الذاكرة لا تحفظ ولا تختزن لا ماديًا ولا روحانيًا فكيف بالإمكان إعادة بناء الذكرى؟ أوَ ليس من الضروري وجود بعض المساعدات (مساعدات التذكر) لإعادة إنتاج الذكرى؟

في الواقع أن إعادة إنتاج الماضي هو عملية معقدة تدخل فيها جميع العناصر النفسية والجسمانية الفيزيولوجية والاجتماعية. ولكي نتذكر موضوعًا ما علينا أن نضعه على مسافة منا ونجعله بين ركيزتين: أي ما قبله وما بعده، هذا يعني أننا نموضع الذكرى في المكان بين حدثين مهمين من أحداث حياتنا. في هذه الحالة فإن إعادة بناء الماضي تتم عبر وساطة ما يسمى بنقاط الارتكاز (point de repère).

كذلك فإن إعادة بناء الماضي تخضع للعوامل التالية:


أ- البعد العقلي:

الذكرى لها طابع عقلي ذو أهمية قصوى فالذكرى تختلف كثيرًا عن الصورة المتخيلة وعن الإدراك وعن الشعور أنها عبارة عن حكم عقلي وبالدرجة الأولى لذلك نرى أن الولد الصغير يجد صعوبة كبرى في عملية التذكر، لأن الذكرى ليست صورة بل حكم عقلي عن الصورة المتوضعة في الزمان.


ب- العامل الجسدي:

يتدخل هذا العامل بدوره في عملية التذكر. فموقف الجسد وحركته يجعلان موضوعًا ما مألوفًا من قبلي. والحدث الذي نعاينه يتخذ أحيانًا معنى متجذرًا في ذاكرتنا فنراه مألوفًا حتى قبل أن نحكم عليه بالعقل.


ج- العامل الاجتماعي:

وعلى هذا المستوى لا بد من التذكير بنظرية هولباخ التي جاءت في كتابه “الأطر الاجتماعية” للذاكرة. فبمساعدات الذاكرة حسب هولباخ هي عوامل من طبيعة اجتماعية. فنحن نعيد بناء الذكريات بالاستناد إلى أحداث اجتماعية كبرى لأننا نشارك في الحياة الجماعية. فالأعياد والمواسم والدخول إلى المدرسة كلها نقاط ارتكاز يستند إليها التذكر وتجعل تمييزنا للأمور أشد دقة ووضوحًا. إنها إضاءات نرسم من خلالها مراحل حياتنا فنحن نقول مثلاً: قبل الحرب.. بعد حصولي على الشهادة.. بعد زواجي.. فالقبل والبعد هي مرتكزات تجعل تمثلاتنا للماضي أكثر وضوحًا وانضباطًا. ومن خلال هذه المرتكزات الموضوعية تتحدد ذاكرتنا الفردية والعائلية أو المجتمعية والوطنية. وعلى هذا الأساس يقول هولباخ أن الماضي لا يحفظ بل إننا نبنيه انطلاقًا من الحاضر على أساس المرتكزات الاجتماعية للتذكر.


نخلص من هذا كله إلى أنّ مسألة إعادة بناء الذكريات ترتبط بشخصية الفرد بكامل أبعاده العقلية والجسدية والاجتماعية. وهذا الارتباط نفسه يؤدي إلى تغير وتبدّل الذكريات المتأثرة أبلغ الأثر بظروف الشخص الداخلية النفسية والموضوعية المجتمعية على حد سواء. لذلك يمكننا الكلام على تطور الذكريات. فالذكريات ليست بأي شكل من الأشكال نسخًا طبق الأصل من الماضي ووقائعه. والذاكرة ليست آلة تصوير (كاميرا) لأن الذكريات تغتني وتتبدل متأثرةً بكل الأحداث التي تلت موضوع التذكر.

بهذا الشكل فإننا نرى أنفسنا أمام مسألة إشكالية جديدة تختص بمدى أمانة الذكريات ولا بدّ من الإشارة سلفًا إلى أن عودة الذكريات العاطفية كاملة، أي بحذافيرها، هي ظاهرة مرضية أكثر مما هي خاصة بعمليات التذكر عند الشخص السويّ. فالشخص يمتلك حضورًا أو قيمًا وانشغالات تنم كلها عن حالاته الحاضرة وتؤثر في عمليات التذكر. وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف “غوسد ورف” حين عنون كتابه “الذاكرة والشخص”، فهو يبين لنا بطريقة صادقة أن الوعي لا يعكس الماضي ولا يفهمه إلا من خلال القضايا والأوضاع النفسية الراهنة.

إلا أن هناك من يتحدث أيضًا عن ذاكرة عاطفية تكرر الماضي بأمانة كاملة. فهل أن مثل هذه الذاكرة هي موجودة بالفعل؟


الذاكرة العاطفية


الذاكرة العاطفية هي عودة المشاعر على شكل ذكريات. فالأحاسيس والأشياء تحمل في عمقها معاني تحرك في بعض النفوس مشاعر جميلة أو تعيسة. وللشعراء في هذا الميدان ذكريات عواطف تغذي أدبهم. ويعتبر الشاعر “بروست” من الذين توقفوا كثيرًا عند هذا النوع من الذاكرة في كتابه “عودة الزمن”. يقول “بروست” أنه كان يغمس قطعة بسكويت في الشاي عندما استيقظت في ذاكرته عواطف جميلة لم يحدد للتوّ هويتها. وتذكر فجأة أيام كان عند عمته في القرية يتناول الوجبة نفسها. ويذكر أيضًا أنه عند سماعه طقطقة الحطب المشتعل في موقد، تملّكته مشاعر طفولته في ليالي الشتاء المثلجة.

ولكن ما مدى مصداقية هذه الذاكرة العاطفية؟ وهل هي ذاكرة بالمعنى الدقيق للكلمة؟

صحيح أن الأجواء العاطفية والأشياء القديمة التي تختزن معاني جميلة أو تعيسة من شأنها أن تحيي ذكريات العواطف القديمة، لكن أنصار هذه النظرية يدّعون خلاف ما يقرّره علم النفس، معتبرين أن العواطف الجديدة تكرر العواطف القديمة بتمامها.

أما علم النفس من جهته فهو يقرر أنه كلما طال الزمن فإن عواطفنا تتنامى وتغتني بتجاربنا، بحيث أن أي موقف جديد يثير ذكريات الماضي لا يمكن أن تتساوى فيه العواطف الجديدة بالقديمة. فعواطف الكبار هي غير عواطف الأطفال.

وفي حال سلّمنا جدلاً بوجود مثل هذه الذاكرة، فعلينا أن نعترف أن الذاكرة العاطفية هي شبيهة بالعادات العاطفية، بالتالي فهي تعبير عن حالات مرضية غير سوية. فالذاكرة العاطفية إما أن تبقى لا واعية فلا تكون ذاكرة، بل مجرد عواطف مرضية مبهمة أشار إليها “فرويد” في معالجاته النفسية، وإما أن يرافقها وعي، فتكون العاطفة في هذه الحالة عاطفة جديدة ناتجة عن حالة تذكر عقلي واعٍ.


النسيان:

يشكل النسيان مفهومًا مضطربًا شأنه في ذلك شأن الذاكرة. فالبعض يعتبر النسيان غيابًا مؤقتًا أو تأملاً لبعض التمثلات أو الأفكار التي مرّ بها الوعي. فالنسيان بالنسبة لهؤلاء هو مجرد فقدان أو غياب الذكريات.

ولكن هذا الفهم للنسيان والذي يجعل منه ظاهرة مرضية أصبح مرفوضًا في هذه الأيام. لذلك علينا أن نميز بين النسيان كظاهرة مرضية والنسيان كظاهرة عابرة. فالنسيان ليس دائمًا نقيض الذاكرة بل يبدو مكملاً لها.

1- الشكل السلبي للنسيان:

النسيان السلبي يرتد إلى عدم كفاية تثبيت الذكرى ومن أهم الأمثلة على هذا النسيان:

نسيان أحداث السنوات الأولى لطفولتنا. نحن ننسى كل ما لا يثير اهتمامنا ولا يلفت انتباهنا. فعوامل التقدم في السن والتعب والأمراض، الفيزيولوجية منها والنفسية، تؤدي جميعها إلى النسيان الذي يتخذ أشكالاً مأساوية أحيانًا. وللنسيان السلبي أيضًا عوامله النفسية حيث أننا لا نحب استعادة أخطاء الماضي. فكل الحوادث التي لم نكن نلعب فيها دور البطولة لا نرغب بتذكرها. ولكن رغم هذا العامل فلا يمكن الادعاء أن للنسيان السلبي دورًا وظيفيًا في الحياة النفسية.

2- النسيان الوظيفي ذو الطابع الإيجابي:

يوجد شكل آخر من أشكال النسيان إنه الشكل الإيجابي المعبّر عنه بالوظيفي. فإذا كانت الذكريات تقتضي وجود الاختيار الواعي حتى يتم تثبيتها، فعلينا أن ندرك أن الذاكرة الجيدة ليست وعاء نضع فيه كل الأحداث دونما تمييز بين بعضها البعض. فالنسيان بدوره ليس عملية تفريغ لما امتلأت به الذاكرة، ولكن هو خاضع لعملية الاختيار نفسها التي إما أن تثبت الذكرى وإما أن تحذفها نظرًا لعدم حيويتها. بهذا المعنى فإن صناعة التذكر تكمن في صناعة النسيان. فمن دون النسيان الوظيفي لا يمكن قيام ذاكرة حقيقية فالنسيان الوظيفي هو عبارة عن فقدان الاهتمام بشيء ما، سواء على المستوى العقلي أم على المستوى العاطفي.

مثال ذلك نحن لا ننسى أبدًا رفاق الصف ولكننا نحتفظ أكثر وأكثر بذكرى هؤلاء التلامذة الذين كنا نكرههم ولم يكونوا حياديين في نظرنا.

وبالفعل؛ إن النسيان هو شرط لوجود الذاكرة، أي الذاكرة الحقيقية التي تخلصنا من كل الذكريات التي لا تستدعي اهتمامنا. والشخص الذي لا ينسى هو عبارة عن آلة أو دماغ الكتروني بينما الشخص السوي هو الذي ينسى ويؤثر نسيانه على صعيدي العمل والخيال. وعلى سبيل المثال إن ثغرات الذاكرة وفجواتها هي التي تدفعنا إلى التخيل المبدع وإلى العمل الخلاق.

كذلك فإن للنسيان الوظيفي دورًا فاعلاً في الحياة الأخلاقية وفي القيم. فالنسيان يعني التسامح وبقدر ما ننسى بقدر ما نكون متسامحين وكرماء.

والواقع أن النسيان يشكل ضرورة عملية. إذ لا يمكن للإنسان أن يتذكر الماضي بكامل تفاصيله، ولو فعل لأصبح هذا التذكر عبئًا ثقيلاً يعيق حركته في الحاضر. ولذلك علينا أن نؤكد مع “برغسون” أن الذاكرة هي فعل اختيار يتناسب مع الحاضر ويتوافق مع مستلزماته.

نخلص من هذا كله أن الذاكرة هي وظيفة وليست مستودعًا تصب فيه الذكريات وتستعاد كيفما اتفق ومن دون تمييز. ولذلك قيل إن الذاكرة التي لا تنسى لا تستطيع أن تحفظ. مثل هذا القول لا يقصد فيه مجرد التلاعب بالألفاظ، بل هو يعبر عن واحد من الشروط المحددة لاشتغال الذاكرة. فالذاكرة هي وظيفة منظمة تستلزم النسيان. بكلام آخر فإن هذا النوع من النسيان الوظيفي هو واحد من المقومات الوظيفية للذاكرة، وهو ما أشار إليه “ريبو” بقوله: لكي نتذكر علينا أن ننسى. وهو كذلك ما جرى على لسان دكتور “ديلاي” حين قال: النسيان هو حارس الذاكرة.




النظرية التجريبية ومسألة الصورة الذهنية:

يفسّر علماء النفس الكلاسيكي الحياة النفسية باللجوء إلى مفهوم الصورة الذهنية، أي هذا الأثر المادي المنطبع في الدماغ بعد غياب موضوعات الإدراك. وقد ذهب أصحاب نزعة التجريب مذهبًا مماثلاً في تفسيرهم لطبيعة التخيّل. فهم اعتبروا أن التخيّل، شأنه شأن سائر قوى النفس الداخلية، يرتد بطبيعته إلى الصور أو الآثار المتبقية عن الإدراك الحسي.

وبهذا الشكل فإن كافة أشكال الإدراك والتذكر والتخيّل مستمدة من انطباعات حسية تشكّل الخطوة الأولى والضرورية التي تسبق كل حالة من أحوال النفس الداخلية. ومن الأمثلة التي يعتمد عليها التجريبيون لدعم فكرتهم مثال الأعمى بالولادة الذي ليس بمقدوره أن يتخيّل أو أن يفقه معنى اللون لأنه لم يسبق له أن عرفه عن طريق الإدراك الحسي. وكذلك هو الأمر بالنسبة للأصم بالولادة الذي لا يستطيع أن يتخيّل ظاهرة الصوت.

ولا يتوانى التجريبيون عن تفسير التخيل الآخر المعروف باسم التخيّل الخلاق أو المبدع من منطلق الإدراك الحسي نفسه. فالرسام، على سبيل المثال، في تخيّله لعروس البحر، لم يبدع هذه الصورة من مختلف جوانبها، وإنما هو أعاد بناء بعض المعطيات الإدراكية بطريقة مختلفة، أي أنه مزج ما بين صورتين هما في الأساس من موضوعات الإدراك الحسي؛ إن وجه المرأة وجسم السمكة هما معطيات حسية، الأمر الذي يعني أن الإدراك هو في أساس كل عملية تخيلية، وأن التخيل، حتى في أشكاله الراقية والإبداعية، يرتد إلى التخيّل المستعيد Imagination reproductrice.



مناقشة النظرية التجريبية:

ينطلق التجريبيون في تفسيرهم للتخيل من منظور خاطئ يرد التخيّل والإدراك إلى طبيعة واحدة. ومن الصعب الدفاع عن هذا المنظور الذي تكذبه التجربة الشعورية الفطرية. فالتجربة التي يعيشها الفرد في أعماقه يتخللها شعور واضح بأن التخيّل هو عملية مختلفة عن العملية الإدراكية.

وهذا الأمر تنبّه له بعض فلاسفة التجريب حين ميّزوا بين المتخيّل والمدرك. فقد اعتبر كل من “هيوم” و “تان” أن الصورة المتخيّلة تختلف عن الصورة المدركة تبعًا لدرجة القوة أو الضعف التي تسري في الوعي.

بهذا المعنى فإن الموضوع المدرك يكون قابعًا أمامنا بكل تفصيلاته. وفي هذه الحالة يكون الوعي في أقصى درجات الشدّة والقوّة. أما في حالة التخيّل، المترافقة مع غياب الموضوع من أمامنا، فإننا نفقد القدرة على الإحاطة بكامل جوانب الموضوع مما يؤثر سلبًا على مضمون الوعي وقوته.


وعلى هذا النحو فإن هيوم و تان يعتبران أن التخيّل والإدراك هما من طبيعة واحدة، وأن التمييز بينهما تابع فقط لمعيار القوة أو الضعف. فالإدراك ما هو إلا حالة من حالات الوعي الناتجة عن صورة قوية تقدّم مضمون الموضوع بكامل تفصيلاته. أما التخيّل فليس سوى حالة من حالات الوعي الناتجة عن صورة ضعيفة أُهدرت تفصيلاتها بعد غياب الموضوع.


لكن هذا الحكم الذي يعتبر أن موضوع التخيّل ليس سوى إدراكًا اعتراه الضعف، لا يأخذ بعين الاعتبار التمييز بين الطبائع المختلفة لكل من الإدراكات والتخيّل. وبالفعل فإن الفرق والاختلاف بينهما واضح للعيان. فعلى سبيل المثال إن إدراك المرء لصورة المنزل الذي يسكنه مختلفة تمامًا عن تخيّله لقصر فخم. وهذا يعني أن خطأ التجريبيين هو في عدم تمييزهم بين المستويات المختلفة للوعي. فكل من الإدراك والتخيّل هو مظهر من مظاهر الوعي، أي طريقة خاصة للوعي في توجهه لمعرفة العالم. فالوعي يمكن أن يكون وعيًا مدركًا، والوعي يمكن أن يكون وعيًا متخيّلاً، وهذا يعني أن فعل الوعي ليس هو نفسه إبان عملية التخيّل وإبان عملية الإدراك. فالمذهب التجريبي يقوم بمسخ الأحداث النفسية وتشويهها عبر ردّها المصطنع إلى أثر مادي أو مضمون. فالتركيز على مضمون الوعي كان محط الإنتقاد الظواهري الذي بيّن، على خلاف التجريب، أن مهمة الوعي الأساسية ليست تابعة لمضمونه، لأن الوعي هو أولاً وقبل كل شيء فعل وحركة قصدية، فهو لا يشبه لا من قريب ولا من بعيد ألبوم الصور، بل هو فعل متجه نحو الخارج.


النظرية الفينومينولوجية (الظواهرية) عند سارتر:

تأثر سارتر الوجودي بالغ الأثر بظواهرية هوسرل Husserl وبشيء من مثالية آلان. فالصورة كما فهمها آلان ليست آثارًا متبقية عن الإدراك. والصورة الذهنية ليس لها وجود بالمعنى الحقيقي للكلمة. ففي داخلنا وفي أعماقنا ليس من شيء يصح اعتباره صورة ذهنية. ففي حال التخيّل نقوم فقط بحركات جسمية وارتسامات لا علاقة لها بالصور الذهنية بل بالجسد وحركاته. فالتخيّل يرتد حسب آلان إلى مجرّد معرفة بالحركة.

أما هوسرل فقد رأى أن الوعي هو هدفية، ولا يوجد أي شيء داخله، فالوعي لا يمتلك صورًا ذهنية بل هو مقصور على الفعل والقصدانية. فكل وعي هو فعل يستهدف شيئًا ما في الخارج، فهو خروج عن الذات باتجاه الموضوعات. بالتالي فإن الوعي ليس حاويًا لا للصور ولا للذكريات، بل يصح اعتبار الصور والذكريات مواقف يتخذها الوعي بإزاء موضوعات الخارج.


ومن خلال تأثره بآلان وهوسرل يباشر سارتر بالوصف الفينومينولوجي للوعي المتخيّل. فالأمر المتخيّل ليس هو الأمر المدرك. إنهما طريقتان مختلفتان لاستهداف موضوع ما. وخلال عملية الإدراك يكون الموضوع ماثلاً أمامي، أما في لحظة التخيّل فإن الموضوع يكون غائبًا. فلكي أتخيّل موضوع ما، علَيّ أن أعتبره غير موجود، أي عدمًا. إن تخيّلي لشخص ما ليس بمعرفة تتم عبر اللمس أو الرؤية، وإنما هي طريقة في المعرفة تلجأ أساسًا إلى غياب الشخص وإلى فقدان كل مسافة مكانية بيني وبينه. ومهما كانت قدرتي على التخيّل قوية، فإن التخيّل يتعاطى دائمًا مع الأشياء والموضوعات من حيث غيابها. لذلك فإن الصورة المتخيّلة عند سارتر ليست من طبيعة الإدراك الحسي. ففي حال الإدراك يمكن التعمق في معرفة أدق تفاصيل الموضوع، بينما في حال الصورة التخيلية فإنها تأتي إلى الذهن دفعة واحدة. والصورة المتخيّلة لا يمكن إغناؤها بأية تفاصيل، بل هي تتمتع حسب سارتر بميزة الافتقار إلى التفاصيل.

فعلى سبيل المثال حين أتخيّل صديقي فأنا لا أستدعي صورته بل أستهدفه كموضوع غائب. ولكن إذا كان التخيل عبارة عن غياب الموضوع، ألا يعني هذا الأمر أن التخيّل والمعرفة قد أصبحا شيئًا واحدًا؟ وهل يجوز أن يصبح التخيّل مجرد معرفة؟

في ردّه على هذا الاعتراض يؤكد سارتر أن التخيّل ليس مجرد معرفة، وأن فعل التخيل ليس هو نفسه فعل التفكير. فالمعرفة تستهدف موضوعًا غائبًا وتستهدف الأفكار المجردة والمفاهيم، بينما التخيّل يفترض وجود مادة، أي هيولى يستطيع الوعي المتخيّل من خلالها استهداف موضوع ما. فالشاب المولع بحبيبته لا يتخيّل محبوبته من خلال معرفة مجردة، بل يفكر فيها من خلال مماثل مادي analogon يمكن أن يكون صورة فوتوغرافية أو حركة أو هدية.


وما تجدر الإشارة إليه هو أن المماثل عند سارتر ليس موضوعًا واقعيًا، لأن التخيّل لا يحصل بالفعل إلا بعد غياب المماثل، أي حين يفقد المماثل حضوره ويصبح مجرد رمز. فالصورة الفوتوغرافية ليست هي المعتبرة في عملية التخيّل، بل دلالتها أو ما ترمز إليه. بهذا الشكل فإن سارتر قد قلب مفهوم النظرية التجريبية رأسًا على عقب، بحيث لم يعد التخيّل الإبداعي مردودًا إلى التخيّل المستعيد وتابعًا له. كذلك فإن الإدراك لم يعد أساس التخيّل، بل أصبح الإدراك نفسه مربوطًا بمقدرة الشخص على التخيّل.


أشكال التخيّل:

يتخذ التخيّل أشكالاً متعددة ترتد كلها إلى مستوين:

مستوى الأشكال الدنيا ومستوى الأشكال العليا. أما الأشكال الدنيا للتخيل فتتوزع ما بين تخيّل فوضوي هائم وتخيّل طفولي حالم ثم أحلام اليقظة. أما الأشكال العليا فتتركز فيما يُطلق عليه اسم التخيل المبدع الذي يفتح آفاق الإبداع الإنساني في مختلف المجالات الفنية والأدبية والعلمية.

أ- الأشكال الدنيا للتخيل:

ونبدأ بالأشكال الدنيا (inférieure) حيث يبدو التخيل الهائم (errante) تخيلاً فوضويًا غير منضبط بقوانين، وغير خاضع لأية قواعد. فالتخيل الهائم، وإن استمد بعضًا من صوره من الواقع، إلاّ أن ما يميزه كونه أشبه بحال الهذيان وبفوضى الأحلام، وهو بالتالي غالبًا ما يعبر عن حالة مرضية. ففي حالة الحلم تعمّ الفوضى وتتواجد الأشخاص والأماكن والأشياء عشوائيًا وبطريقة غير منطقية، فيكون الشخص الواحد هنا وهناك في آن معًا. وفي الحالات المرضية يسيطر كذلك التخيل المرضي فيأتي بصور مرتبطة برغبات أكثر مما هي مرتبطة بالواقع ومجرياته بالتالي فإن الفرد الذي يمارس هذا النوع من التخيل الهائم والفوضوي هو شخص غير سوي أهمل الواقع واستغرق في أوهامه الخاصة.

والتخيل الطفولي (infantile) هو بدوره أحد أشكال التخيل الدنيا. فالطفل يحوّر الوقائع ويكوّن عالمًا خاصًا به تسيطر عليه أوهام النزعة الإحيائية (animisme). فالفتاة التي لا تتجاوز الثلاث سنوات من العمر، تتخيل أن الحجارة المتواجدة في الطريق يعتريها الضجر، شأنها شأن الناس الأحياء. ولذلك تراها تحمل بعض هذه الحجارة وتنقلها من مكانها إلى مكان آخر كي تخلصها من الضجر. وفي كثير من الأحيان يتحول خيال الطفل إلى خيال أسطوري، ويخترع الولد بعض القصص الخيالية وينسج أحداثها وربما جعل من نفسه أحد أبطال هذه القصص. والجدير ذكره أن هذا العالم الخاص يبتدعه الولد نظرًا لتعلقه بعالم الغرائب والعجائب، وهو يجد أن هذا العالم الخيالي أكثر واقعية من عالم الكبار والراشدين.

أما أحلام اليقظة (rêverie) فهي تشبه في بعض من وجوهها التخيل الهائم والفوضوي، لكنها أقرب إلى الفطرة والبساطة. فمن خلال أحلام اليقظة يترك الفرد نفسه منقادة لسجيتها، ويجعلها منفلتة من كلّ القيود والضوابط المجتمعية، بالشكل الذي تغيب معه كل وظائف المراقبة عن ممارسة فعاليتها في الضبط والتوجيه.

وأحلام اليقظة، التي تفتح أمام الشخص أبواب الخيال الجانح، تؤدي إلى عدم تركيز الوعي على الواقع الراهن الماثل أمام الشخص. وهذا ما يسميه لالاند حالة الضياع والتشتت. لكن هذا الضياع له مستويات ودرجات متعددة، وهي تختلف عن حالة الفوضى المشاهدة في الأحلام الليلية فبينما نجد أن الحلم الليلي يجري من دون التركيز على موضوع واحد بعينه، فإن أحلام اليقظة تتركز على موضوع واحد تعود إليه المرة تلو الأخرى لتنير جوانبه. فأحلام اليقظة يمكن أن تلعب أحيانًا دوراً إيجابيًا ومبدعًا. ولكنها في أحيان أخرى تصبح في غاية الخطورة لأنها تسلب الفرد القدرة على المشاركة في هموم الواقع فتقضي على حياته السويّة وتستبدلها بأوهام زائفة.


ب- الأشكال العليا للتخيل أو التخيل الإبداعي:

يمكن القول أن الإبداع والاكتشاف هما من أهم الأشكال العليا للتخيل.

والإبداع يختلف عن الاكشتاف. فالإبداع هو الإتيان بجديد لم يكن موجودًا من قبل، بينما الإكتشاف يختص بالكشف عمّا كان موجودًا، ولكن وجوده كان مستترًا ويعتريه الغموض. فغاليليه دخل عالم الإبداع في اختراعه للمنظار الفلكي، وغاليليه نفسه هو من المكتشفين لأنه اكتشف وجود الكوكب جوبيتر.

والواقع أن الاختلاف بين الإبداع والإكتشاف ليس اختلافًا جذريًا. فكل إبداع هو اكتشاف، وكل اكتشاف هو إبداع وذلك لسبب بسيط وهو أن الإبداع الأكثر جدةً لا ينطلق من لا شيء، بل لا بدّ له من الارتكاز إلى أفكار ووسائل قديمة وسابقة عليه.

إن الجديد في عملية الإبداع ليس جدة العناصر بل الجديد يختص بالمنهج أو بإعادة تركيب العناصر القديمة بأشكال مختلفة وفي منطلقات منهجية جديدة. فكل إبداع وكل إكتشاف يفترض باستمرار مناهج جديدة وطرائق جديدة في تفسير الأمور. فالاكتشاف هو طريقة جديدة في النظر إلى الأمور وهو في أغلب الأحيان يتأتى من خلال علاقة جديدة:


شروط ومرتكزات التخيل الإبداعي:

1- المرتكزات العاطفية:

يفترض بالشخص المبدع أن يتمتع بادئ ذي بدء ببعض الخصائص العاطفية. فالعالم، شأنه شأن الفنان والشاعر، يتمتع بحسّ مرهف يجعله في حالة تيقظ ويشد انتباهه صوب بعض الموضوعات المتميزة.

والواقع أن الإبداع يرتبط بالإندفاع العاطفي وبالحماس أكثر بكثير مما يرتبط بالطرائق أو الوسائل المتبعة. فالعبقرية وثيقة الصلة بالقلب وبالإنفعالات العظيمة الخلاّقة حسب التعبير البرغسوني.

2- المرتكزات العقلية:

لا شك في أن الإبداع هو عبارة عن عملية عقلية لأنه يرتكز بالدرجة الأولى على التجريد والتعميم، كما يعتمد على الفكر النقدي والمنهجي.

ولكن كلود برنار يبيّن أن دور العقل في الإبداع لا يقتصر على اتباع الطرائق، إذ أنه في الكثير من الأحيان يتم الكشف عن الحقائق الجديدة عبر الحدس أو الإستنارة الفجائية التي تتخطى اتباع طرائق البحث ومناهجه. مع ذلك ورغم هذا الطابع الفجائي للإبداع، ينبغي الإقرار بأن الإبداع ليس وليد الصدف أو العبقريات الفريدة من نوعها، بل هو نتيجة منطقية للأبحاث المستمرة وللعمل الدؤوب. فالحقيقة أنّ ما يبتدى كإبداع فجائي من دون مقدمات ليس إلا النتيجة الفعلية للكثير من الأبحاث التي جرت في السابق من دون التوصل إلى نتائج، فكانت بالتالي خطوة تحضيرية وتأسيسية سابقة لكل عملية إبداعية.


3- المرتكزات الاجتماعية:

يرتبط تاريخ العلم بالعديد من أسماء العلماء البارزين مما يساعد على الاعتقاد أن عبقرية الأشخاص ومبادراتهم الفردية لها دور بارز في الاكتشافات العملية وفي الإبداع. ولكن لا يخفى ما في هذا الاعتقاد من تضخيم لدور الفرد، إذ الفرد نفسه ينتمي إلى مجتمع معين وعصر معرفي يستمد منهما ثقافته ومعارفه العلمية. فمسألة الإبداع مربوطة بحالة العصر المعرفية. وكل اكتشاف أو إبداع لن يكون ممكنًا إلا إذا كانت الحالة المعرفية تسمح بحصوله. فالعبقرية حسب لوروي Le Roy ليست وليدة الفطرة بل هي متأتية من التعلم والاكتساب. فالفنان لا يبدع إذا هو لم يطلع على مدارس الفن ومذاهبه، والرسم يتم تعلمه في المتاحف على حد تعبير (Renoir).

وعلى هذا النحو يظهر أن الإبداع ليس نتيجة عمل فردي وإنما هو نتيجة لتضافر العديد من الجهود والعبقريات، أو بالأحرى هو نتيجة لإسهام العديد من الأجيال المتعاقبة. والواقع أن التطور العلمي المعاصر لم يعد مرهونًا بأفراد، بل بعمل المجموعات والمؤسسات ومراكز الأبحاث الكبرى التي تضم أعدادًا كبيرة من الباحثين من مختلف أصقاع العالم.






مبحث الإدراك و الاحساس


يبدو للوهلة الأولى أن الأحاسيس هي المعطى الأكثر بساطة الذي يربط الفرد مباشرة بالعالم الخارجي. فالإحساس بالبرودة والحرارة وبالمر وبالحلو وبالأزرق وبالأحمر، ما هو إلا تعبير حسي أولي عن علاقة الشخص بالواقع الخارجي.

أما الإدراك فهو عملية تمييز (معرفة) لموضوع خارجي وليس مجرد انفعال داخلي (انطباع حسي). إنه إذًا علاقة معرفية معقدة تربطنا بالأشياء وتكشف لنا وجودها. فالإدراك هو علاقة الوعي المدرك بموضوعات الإدراك وهو عملية أكثر تعقيدًا من الحس، فهو بطبيعته يشكل تجاوزًا لمستوى الانطباع الحسي.



طبيعة الإحساس وقوانينه

لا يشكل الإحساس معرفة بالعالم الخارجي ولا انعكاسًا موضوعيًا له، بل هو ردة فعل العضو الحاس على المؤثر الخارجي؛ هذا يعني أن الإحساس هو حالة تكيف بيولوجي لأنه يتوقف على العضو ذاته لا على المؤثر. وهناك أمثلة على ذلك:

إن مؤثرًا واحدًا يُحدث في أعضاء مختلفة أحاسيس مختلفة.

وإن مؤثرات مختلفة في عضو واحد تُحدث ردات فعل متشابهة. بالتالي فإن الإحساس يعبر عن العضو الحاس أكثر منه عن الشيء الخارجي.

وإلى ذلك فإن أحاسيسنا لا تستوعب جميع ما يردها من الخارج من ذبذبات صوتية وحرارية وضوئية: وإن لبعض الحيوانات قدرات حسية متفاوتة فيما بينها، لكنها لا تتوفر للإنسان. فكل إحساس يقتطع من الواقع مجالاً يتكيف معه الكائن الحي بواسطة عضو خاص، ما يؤكد ذاتية الإحساسات بحيث لا يمكن أن نلتمس فيها أي معرفة موضوعية.

ويتأكد لنا ذلك أيضًا الذاتية في الإحساس، في القانونين التاليين:

- قانون “ويبر Weber” هناك ثابتة تعبر عن كمية الزيادة في المؤثر التي تُحدِث فرقًا في الإحساس.

- قانون “فشنر Fechner” انطلق “فشنر” من قانون “ويبر” فتوصل إلى قانون مؤداه أنه عندما تتزايد شدة المؤثر حسب متوالية هندسية فإن شدة الإحساس تتزايد حسب متوالية حسابية وهذا يؤكد أن الإحساس هو عملية تكيف لا عملية معرفة بحقيقة العالم الخارجي فإن تزايد الإحساس بدرجة أنقص من تزايد المؤثر هو نوع من الدفاع البيولوجي للجسم، بل إنه عملية دفاع تلقائية للجسم تحدّ من ضغوط المؤثرات الخارجية وعواقبها على سلامة الجسد.

الإدراك:

يعتبر الإدراك نقطة الالتقاء بين الوعي والعالم، أي بين الشخص المدرك والموضوعات المحيطة به. فحين نعبّر بالقول نحن نرى أو نسمع أو نلمس هذا الشيء، فإننا نقصد بهذا الكلام العملية الإدراكية التي تجتمع فيها المؤهّلات العقلية والمعرفية مع العناصر الحسية والحركية. فالإدراك ما هو إلا نتاج لهذه العلاقة الثنائية بين قطبي العقل والحس. والخلاف الفلسفي حول مسألة طبيعة الإدراك لا يستهدف نفي أو استبعاد أحد هذين القطبين، بل هو خلاف يدور برمته حول أسبقية الواحد منهما على الآخر. ولذلك تطرح مسألة طبيعة الإدراك إشكالية فلسفية مألوفة تتلخص بالسؤال التالي: أيهما أسبق في عملية الإدراك، المنطلق الحسي أم البُعد العقلي؟

وهل يتأسس الإدراك على العوامل الخارجية الحسية التابعة للموضوعات المدرَكة؟ أم أن أساس العملية الإدراكية هي العناصر الذاتية الكامنة داخل الذات المدرِكة؟

ليس من شك في أن الإجابة على هذه التساؤلات ستتوزع تبعًا للفلسفات المختلفة لتنتج إما حلولاً تجريبية واقعية تقدّم الموضوع على الذات، وإما نظريات مثالية عقلية تعطي الأولية للذات على الموضوع. وبهذا الشكل تختلف التفسيرات وتتعدّد النظريات التي تحاول أن تجد جوابًا للإشكالية المعقدة التي تتناول مسألة “طبيعة الإدراك”.


التمييز التقليدي بين الإحساس والإدراك:

في مثل هذه الدراسة عن الإدراك يبدو مستحسنًا البدء بتمييزه عن الإحساس. فالإحساس هو المعطى البسيط الذي يعبّر عن خاصية المعاش Le vécu قبل أن ينتقل إلى حيّز المعرفة العقلية. إنه حدس مباشر يقوم به عضو الحس ناقلاً للوعي انطباعًا أولاً عما يجري في المحيط الخارجي. ولذلك فإن الإحساس لا يعبّر عن أية معرفة متحدّدة بل هو في حقيقته يعبّر عن ذاتية عضو الحس. ولكي يكتسب معاني ودلالات يتعيّن تفسير هذا الإحساس لينتقل عبر هذا الجهد العقلي إلى مستوى الإدراك، أي معرفة الموضوعات المتحدّدة في الزمان والمكان.

فالأحمر على سبيل المثال ما هو إلا عبارة عن إحساس صرف، وهو يصبح تابعًا للعملية الإدراكية حين يتحدّد كوصف يخص موضوعًا ما بعينه، كمثل أن نقول: هذا بساط أحمر.

يظهر إذًا بوضوح أن الإحساس هو عبارة عن ظاهرة بسيطة طبيعية وابتدائية تصيب الوعي وتحرّكه. ومنذ الأيام الأولى للولادة يمتلك الطفل الوليد إحساسات الألوان والأصوات والروائح.. لكنها تبقى إحساسات صرفة غير قابلة للإنتقال إلى معارف متحدّدة في تلك الفترة المبكرة من الطفولة، إنها مقصورة بالكامل على بعض التغيرات والاستجابات الجسمانية.

أما الوصول إلى عملية الإدراك، وتحوّل الإحساسات إلى معارف، فهي أمور تابعة لمراحل النضج اللاحقة حيث تتركّز الإحساسات في الموضوعات الخاصة بها. فمن خلال الإدراك يتحول الإحساس إلى تمثّلات معرفية تابعة لمستوى العقل. ومن خلال الإدراك كذلك تنتقل الانطباعات الذاتية التي يقدّمها الإحساس فتصبح معرفة موضوعية. وهذا يعني أن الإدراك هو عملية بنائية من فعل الوعي المدرك. إنها العملية التي تؤهلنا لاقتلاع الحس وتحويله كي يلتحق بموضوع معرفي خاص. وبهذا الشكل فقط، أي حين يتمركز الانطباع الحسي في موضوع ما، ينقلب الإحساس إلى عملية إدراكية.

لكن هذا الإنقلاب والتحويل يطرح إشكالية العلاقة بين الحسي والعقلاني، بين الواقع وتمثّله الذهني. إنها إذًا إشكالية فلسفية قديمة ومتجدّدة تحاول فهم العلاقة بين المادة والروح، فتتحول في مسألة الإدراك إلى تساؤل أساسي يفرض نفسه على هذا النحو: كيف يمكن لموضوع واقعي ومادي تابع للعالم الخارجي ومتميّز بفردانيته واستقلاليته، كيف يمكنه أن يصبح موضوعًا معرفيًا تابعًا للعقل ولعالم الوعي الداخلي؟


النظرية العقلانية: (الإدراك هو حكم عقلي):

يبدو أن النظرية التقليدية في الإدراك تتركز حول مجموعة من المفاهيم لخصها لالاند في التعريف التالي:

“الإدراك هو فعل للشخص ينظم فيه مباشرة أحاسيسه الحاضرة ويفسّرها ويكملها بما عنده من صور وذكريات. وتفترض الذات المدركة وجود موضوع متميز ومستقل عنها، وتحكم عليه فطريًا أنه موضوع واقعي ومعروف من قبلها في اللحظة الحاضرة..”.

وأول ما يلفت النظر في هذا التعريف هو أن الشخص، أو الذات المدركة، هو الذي يقوم بتنظيم أحاسيسه. وهذا يعني أن الأحاسيس هي معطيات ابتدائية ينطلق منها الإدراك. فالأحاسيس بحدّ ذاتها ليست معارف وإنما هي المنطلق والشرط المحدّد لكل معرفة لاحقة.

كذلك فإن تنظيم الأحاسيس يسمح لنا بافتراض وجود موضوع متميّز متمركز في المكان. وإذا كان جان فال قد فهم الحيّز المكاني أنه عبارة عن فكرة مجرّدة، وإذا كان الفيلسوف كانط قد اعتبره واحدًا من الأشكال القبلية السابقة للتجربة، فإن المقصود بالمكان هنا هو وظيفيته ضمن العملية المعرفية. والعقل يضطلع بدور هام في تحديد العنصر المكاني، وهذا ما يعبّر عنه آلان بقوله: هذا الأفق البعيد لا أراه بعيدًا عني، إني أحكم عقلاً أنه بعيد من خلال لونه وحجم الأشياء التي أراها منه.

وعلى هذا النحو فإن الإدراك يفترض مداخلة الأحكام العقلية لتفسير معطيات الحس. وعملية التفسير العقلي هذه تذكرنا بديكارت الذي اعتبر أن الفعل هو الأساس في عملية المعرفة وأن الأحاسيس هي مصدر الخطأ والخداع في معارفنا. ولكن يبقى مع ذلك وجهًا ايجابيًا لهذه الأحاسيس في عملية المعرفة لأنها وحسب ديكارت، هي التي تجعلنا على احتكاك مباشر مع الوقائع التي ينبغي معرفتها. ويعطينا ديكارت مثاله الشهير عن قطعة الشمع فيقول أن هذا الجسم المدرَك: (الشمع) ليس مدركًا من خلال الأحاسيس المختلفة التي يتبدى لنا من خلالها: (الرائحة-اللون-الشكل..)، إن للحكم العقلي الدور الأساسي في عملية إدراكنا للجسم، وذلك لأن مختلف الأحاسيس المرافقة للمادة تتغيّر، فالطعم والرائحة والرؤية تتبدل وبالرغم من ذلك فإن الشمع يبقى هو نفسه بالنسبة لإدراكنا.

وإذا ما عدنا إلى تعريف لالاند نفسه نجده يوافق المنطلق الديكارتي إذ أن عملية الإدراك ليست بالفعل نتاجًا حصريًا للأحاسيس والمعطيات الابتدائية. فالعديد من العناصر المعرفية والعقلية تأتي لتكمّل ما يقدّمه الحس، وهذا ما عبر عنه لالاند بعملية التفسير عبر الصور والذكريات. ويؤيد آلان بدوره هذا الطرح الذي يقحم العقل في كل عملية إدراكية ويجعله أساسًا لها. يقول آلان مدافعًا عن النظرية العقلانية: إننا عندما ننظر إلى مكعب نرى فقط عددًا من وجوهه وأضلاعه، إلا أننا نحكم بأنه مكعب. فهذا الإدراك يتأتى عن حكم يعتمد على مصارد ذهنية سابقة، مما يعني أن الأشياء تدرك من خلال الفكر لا من خلال الإحساس. فالعناصر العقلية وخاصة الذاكرة والمخيلة هي التي تسمح بتفسير معطيات الحس وإغناءها. فإدراكنا لموضوع ما يستدعي دائمًا إغناء المعطيات الحاضرة بتجاربنا وبمعارفنا السابقة. ولذلك ركّز آلان أيما تركيز على دور الذاكرة في عملية الإدراك. ولذلك أيضًا اعتبر برغسون الإدراك مرادفًا للتذكر.

وإذا ما سلمنا بأن للذات الواعية ومعارفها دورًا بالغ الأهمية في عملية الإدراك، فإن هذا يعني أن ثقافة الشخص ومعارفه تنعكس على إدراكاته وتغطيها برمتها. فالنسيج الثقافي والمعرفي واللغوي، وحتى الأخلاقي والقيمي، يؤثر في إدراكاتنا. بل نحن لا نرى العالم إلا من خلال المستوى الثقافي والسلّم القيمي والنظام اللغوي والمحركات الوجدانية التي ننطلق منها لمعرفة العالم. فالموضوع المدرَك نفسه يختلف حسب منظور الشخص المدرِك. فما يراه ابن الثقافة الغربية في موضوع ما، أو مسألة من المسائل، يختلف تمامًا عن منظور الأشخاص الذين نشأوا في أوساط الشرق.

ولما كان الإدراك حسب الفلاسفة العقلانيين نتاجًا للعناصر العقلية وللأحكام التي يبنيها العقل، فإن أخطاء الحواس أصبحت بالنسبة لهم عبارة عن أغلاط ناتجة عن الأحكام العقلية. فالإحساس، حسبما يدعي لانيو Lagneau، ليس هو الذي يجعلنا نقول “هذا صحيح” وهذا “خاطئ”، إذ أن الإحساس ليس بمعرفة منتجة للأحكام. لذلك لا يمكن أن ننسب الأخطاء إلى الحسّ لأن الخطأ يتأتى من العقل ومسالكه البرهانية. أما الحس فيمكن أن ننسب إليه فقط الوهم فنقول: “أوهام الإحساس”.

ويؤكد لانيو أن مجمل الأخطاء التي نقع فيها متأتية من أحكامنا العقلية ومعارفنا السابقة التي تعوّدنا أن نرى الأشياء من خلالها. فحين نقول خطأ عن لوح أخضر: هذا اللوح أسود نكون قد اعتمدنا عقليًا على ظاهرة ثبات اللون التي عهدناها بتجاربنا السابقة.


نقد النظرية العقلية:

ليس من شك في أن الحجج الي ترتكز إليها النظرية العقلانية هي في غاية الأهمية. فالتكوين العلمي للشخص المدرك وكذلك سائر العناصر المعرفية المتحكمة بعملية الإدراك، من صور وذكريات ولغة وعادات ذهنية وأساليب منطقية.. تتدخل كلها لتحديد عملية الإدراك. فعندما أرى شخصًا من بعيد، أحاول تحديد أوصافه من خلال اللجوء إلى أوصاف مشابهة، فألجأ إلى مقارنة قامته ولون شعره بنظيراتهما التي أعرفها عن شخص آخر شبيه، مما يؤكد أهمية الذاكرة في توجيه الوعي وفي التحكم في عملية الإدراك.

ولكن يبدو أن للعناصر الذاتية دوراً هامًا هي الأخرى في عملية الإدراك. وحتى العناصر العقلية نفسها التي يتحدث عنها أصحاب النزعة العقلية ليست من طبيعة موضوعية صرفة. ولذلك لا بدّ من التنبه إلى أمر هام، غفل عنه العقلانيون، وقرّره بياجه، وهو أن المعارف التي يتمتع بها الشخص الواحد ليست هي نفسها دائمًا، بل هي عرضة لتغير وتبدّل مستمر، بحسب العمر العقلي والظروف الاجتماعية والثقافية والعاطفية التي يمرّ بها الشخص. بالتالي فإن الإدراك من هذا المنظور يرتبط بصورة وثيقة بالعناصر الذاتية التي تتسم بها الشخصية بكامل مستوياتها العاطفية الواعية أو اللاواعية، وهو ما يؤيده فرويد.

فالإدراك لا يرتكز فقط على العامل العقلي، بل إن إدراك العالم مربوط بطريقة اكتشافنا لهذا العالم منذ الصغر، فهو وثيق الصلة بهواجسنا ومخاوفنا وطموحاتنا وأحلامنا، ولذلك لا يمكن البتة إقصاء العوامل الوجدانية والعاطفية عن أن تلعب دورًا بالغ الأهمية في عملية الإدراك.


موقف علم النفس الشكلي (الغشطالت)

(الإدراك كمعطى كلي)

تتبنى نظرية الشكل (الغشطالت Gestalt) موقفًا مخالفًا للنظرية العقلانية، فالإحساس ليس بمادة أولى غير متشكلة، يتدخل الإدراك فيما بعد ليضفي عليها المعنى وليصوغها على شكل بنية متوحدة. بالتالي فإن فلاسفة الغشطالت لا يقرّون بوجود مستويين في عملية الإدراك. مستوى الحس ثم مستوى الإدراك. فالإدراك هو عملية واحدة؛ إنه إدراك كلي ومباشر للموضوعات، وهذا يعني أن الإدراك هو معطى كلي، فالكل هو الذي يدرك دفعة واحدة، ومن خلال الكلّ ندرك التفاصيل والعناصر، ومن خلال الكلّ تأخذ الأجزاء معانيها ودلالاتها. وهذه البنية الكلية هي بنية فطرية تقدّم لنا الموضوعات المدركة في شكل متوحد (غشطالت). فالأولية في عملية الإدراك هي أولية الكل وليس العناصر. وكما يلاحظ غيوم فإن الموضوع المدرَك هو كل لا يمكن قسمته إلى أجزاء متمايزة وفردانية. إن له بنية كلية وشكل عام، فهو يشكل وحدة تتحكم بكل جزئياتها، حتى أن الجزء الذي ينتمي إلى هذا الكل المتوحد يختلف هو نفسه حين ينخرط في كل متوحد آخر.

نستخلص من هذا كله أن علم نفس الشكل يرى أن الإدراك ليس تركيبة من أحاسيس سابقة، بل إن موضوع الإدراك المباشر هو المجموع وليس الأجزاء الداخلة فيه. فإننا بالتأكيد لا نقوم بعمل ذهني لجمع الأجزاء في إدراك واحد، بل إن الأجزاء تظهر في الوعي مباشرة في توليفة، أي في شكل أصيل (Une Gestalt)، فالمُعطى الأول هو الشكل وليس الجزء.

إن الشكل والمادة هما مدركان دفعة واحدة، فحواسنا لا تنفتح على عالم من الأحاسيس المشتتة بل على عالم متوحد تكون فيه الموضوعات منتظمة في تركيبات أصيلة حسب قانون الشكل الأفضل والأبسط والأقوى.

من خلال هذا المنظور كان لعلم النفس الشكلي ملاحظات واعتراضات على مسألة إدراك المسافات وأوهام الإدراك.

كيف يفسر إذًا فلاسفة الغشطالت إدراك المسافة؟

ولما يرفضون موقف العقلانيين الذين يعتبرون أن إدراك المسافة ما هو إلا نتيجة للأحكام العقلية؟

يحاول علماء النفس التقليديون أن يبينوا أن كل ما هو تابع لعملية الإدراك هو نتاج عملية تركيب ذهني أو تجميع يقوم به العقل. ولذلك فقد زعم التقليديون أن الامتداد المكاني Etendue نفسه ما هو إلا فعل تركيبي يتأتى من مداخلة العقل.

وعلى خلاف ذلك فإن نظرية الشكل تدعي استحالة تفسير الامتداد المكاني عبر جمع وتوليف أحاسيس غير متمركزة في المكان. فالمكان لا يمكن أن يكون مدركًا من خلال ما هو من طبيعة غير مكانية. لذلك فإن إدراكنا للامتداد المكاني هو معطى مباشر حدسي وأصيل.

ولتعزيز هذا الطرح يرفض أتباع الغشطالت الحجج العقلانية التي تدعي أن إدراك المسافة هو نتيجة لمنطلقاتنا التربوية والتعليمية. وإذا كان من باب الغلو أن نرفض أي دور للمنطلقات التعليمية في اكتساب إدراكنا للمسافة والمكان، إلا أن وجهة النظر الغشطالتية لها ما يبررها حين تنظر إلى المسافة والمكان كمواقف أصيلة ومباشرة للوعي.

ما هي إذًا الحجج التي يستند إليها أتباع الغشطالت؟

إنها في أغلبها حجج مستقاة إما من ملاحظة الأطفال الصغار وإما من ملاحظة العميان بالولادة الذين أجريت لهم عملية الماء الزرقاء La catracte.

ففي السنوات الأولى من الطفولة يحاول الأطفال الإمساك ببعض الأشياء المتواجدة على مسافات بعيدة، وهذه المحاولات الفاشلة (سوء تقدير المسافة) تؤدي في نهاية المطاف إلى اكتساب الطفل للترابط البصري-اللمسي. فمنذ بداية السنة الرابعة من عمره فإن الولد يصبح قادرًا على القيام بحركات إمساك صحيحة للأشياء الموجودة على مقربة منه. أما سوء التقدير والأخطاء التي يقع فيها قبل إكمال عملية التحكم والترابط، فهي ليست ناتجة عن عدم اكتمال الاكتساب التربوي أو التعليمي، بل هي، حسبما يؤكد غيوم، نتيجة لعدم اكتمال نضوج الطرف والاتصالات العصبية عند الولد.

وبالنسبة لمثال العميان بالولادة، والذين أجريت لهم عمليات لإعادة البصر، فإن ما يصرح به هؤلاء العميان بقولهم أن الأشياء تلامس عيونهم لا يعني بالضرورة أن الحكم العقلي هو الذي سيؤدي إلى إنتاج إدراكهم للمسافة، بل كل ما في الأمر أن قاموس الأعمى ينص على استخدام كلمة اللمس لكل ما هو محسوس. بالتالي فإن الالتباس ينجم عن كون المريض لا يمتلك سوى هذه الكلمة للتعبير عن حالته.

ولذلك يعتبر اتباع الغشطالت أن المسافة، مثلها مثل المكان، هي منتظمة في الإدراك كمعطى مباشر وحدسي لا يحتاج إلى اكتساب ذهني ولا إلى أحكام عقلية.

وكما أن إدراك المسافة هو حدس مباشر، كذلك فإن أوهام الإدراك هي أوهام بصرية وليست نتاجًا للحكم العقلي كما أرادت الفلسفة التقليدية والعقلية تبيانه. فالأوهام الإدراكية لا يمكن تفسيرها إلا من منطلق البنية أو المعطى الكلي. فلكل بنية أو شكل أصيل خصائص محدّدة، وأية إضافة لخطوط أو نقاط جديدة ستؤدي بطبيعة الحال إلى تغيير في كامل البنية وخصائصها الهندسية. لذلك فإن المثال الشهير عن الخطين المتساويين، حيث يبدو واحدًا منهما أكبر من الآخر لا يمكن تفسيره إلا من خلال اعتمادنا على البنية الكلية التي يشكل كل من الخطين واحدًا من عناصرها. فمن خلال هذه البنية المتوحدة فقط نستطيع أن نفسر أوهامنا الإدراكية.


مناقشة نظرية الغشطالت:

قدّم علماء نفس الشكل حلولاً هامة حين بيّنوا أن الإدراك هو معطى مباشر وموقف أصيل للوعي وليس نتيجة لبرهنة أو حكم عقلي. فالإحساسات لا توجد على صورة إحساسات مبتورة عن موضوعاتها، الأمر الذي يعني أن الإدراك هو موقف توليفي كلي، وليس البتة موقفًا تحليليًا عناصريًا. إلا أن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته نظرية الغشطالت هو أنها قلصت إلى أبعد الحدود دور النشاط العقلي، بحيث ينقلب الشخص المدرِك إلى مجرد مشاهد، مسلوب الإرادة وغير فاعل في عملية الإدراك، الأمر الذي يجعل العالم المدرَك عالمًا من الموضوعات المغلقة المتميزة بأشكال ثابتة وأبدية!

وبسلبها لكل فعالية للذات العاقلة فإن الغشطالتيه، كما يلاحظ بياجه، قد وقعت في نفس خطأ فلاسفة التجريب. فما اعتمده فلاسفة الشكل من عدم تمييز بين مستوي الحس والعقل يجعل من نظرية الشكل نظرية غير مقبولة، إذ إن عمليات الرؤية والسمع ليست دائمًا دالة على الفهم أو مترافقة مع العقل. ففي بعض الحالات المرضية من مثل فقدان المعرفة اللمسية أو البصرية، فإن المريض يستقبل الشكل الإدراكي الحسي لكنه لا يستطيع أن يرفعه إلى مستوى المعرفة.

الواضح إذًا أن موقف الشكليين ينتقص بصورة فاضحة دور الذات المدركة. فصحيح أن معنى الكل سابق على معنى أجزائه بل ويتجاوزها، وصحيح أن العالم الخارجي يقدّم للذات أشكالاً منتظمة لها قوانين فيزيائية وهندسية، لكن انتظام الأشكال لا يأخذ معناه الكامل إلا إذا أخذنا بالاعتبار الذات المدركة وما تحمله من أفكار وقيم.

إن فلاسفة الشكل يحولون الذات المدركة إلى ذاكرة سلبية تحفظ صورًا عن العالم الخارجي. لكن الواقع، كما يقول برادين وبياجه، أن الإدراك هو فعل تكوين الأشياء عبر دينامية العقل في علاقته بحقائق العالم الخارجي.

فالإدراك ليس مجرّد تقبل سلبي ولا هو استنساخ للأشياء الخارجية. بالتالي فإن اعتراض بياجه على فلاسفة الشكل، يرتكز على استبعادهم لفعالية الذات وأبعاد الشخصية. فالإدراك حسب بياجه يرتبط بمقوّمات الذات وما تحمله في طياتها من تجارب سابقة وذاكرة حية ورغبات وقيم.


النظرية الظواهرية (الفينومينولوجية)

ترفض فلسفة الظواهر التمييز بين الإحساس والإدراك. ويعتبر الظواهريون أن الوعي هو الذي يبني الواقع ويؤسس المعاني والدلالات، أي أنهم يقفون على الطرف النقيض من نظرية الغشطالت التي زعمت أن الواقع موجود سلفًا كبنية كلية متوحدة.

ويحاول علم نفس الظواهر أن يتبع أسلوب الوصف ويستغني عن التفسير، إذ من خلال الوصف يمكن الرجوع إلى الأشياء بذاتها أو إلى الوعي بحالته الأصلية. فالفلسفة الظاهرية تعتمد على وصف ظاهرية الوعي، أي الحالة النفسية كما هي معاشة مباشرة في الوعي. وهذا يعني أن الظواهرية تعترض على الفلسفة العقلية التي تفترض أن الإدراك هو نتيجة عملية تركيب لجزئيات بسيطة أولى موجودة في الحياة النفسية. فعلى خلاف العقلانيين، يرى أتباع الفينوميولوجيا أن الإحساس ليس حالة انطوائية أولى موجودة في الذات، بل هو لا ينفك عن مستوى المعاش Le vécu. وبهذا المعنى يقول “ميرلوبونتي” أن التجربة المعاشة لا تضعنا أمام المحسوس الصرف المنطوي في الذات، إذ أن الإحساس الأولي ليس موضوع إحساس. فما يظهر من المعاش مباشرة في الوعي هو إدراك متجه إلى الخارج ومتواصل مع العالم الخارجي. فالإحساس لا ينفك مطلقًا عن الإدراك، ولذلك فإن الادعاء بوجود أحاسيس خالصة هو من باب الخرافة، لأن الأحاسيس ليست موضوعًا للوعي، بل هي لا تعدو كونها فرضية لا يمكن إثباتها.

وقد اغتنى هذا الطرح الفينومينولوجي الذي بدأه هوسّرل، زعيم الفينومينولجيا بآراء العديد من الفلاسفة من مثل ميرلوبونتي وديلاي وسارتر وغيرهم.

يؤكد ميرلوبونتي على أهمية الذات وأوليتها في العملية الإدراكية، كما يبيّن أن وضع الجسد له انعكاساته على الإدراك. فالإدراك هو موقف للوعي بإزاء الموضوعات. إنه موقف يتأسس على الذات المدركة أكثر مما هو منوط بموضوع الإدراك. وهذا ما يؤكده ديلاي حين يعتبر أن شخصيتنا برمتها تنعكس على رؤيتنا للعالم. فالأشكال والموضوعات المدركة لا تنقلب إلى عملية إدراكية إلا من خلال مرورها في عمق الذات. وهذا يعني أن العوامل الذاتية لها شأن أساسي في عملية الإدراك. فالميول والقيم والثقافة لها انعكاساتها على عملية الإدراك وأنماط السلوك.

الواضح إذًا، أن منطلق فلسفة الظواهر يحاول التركيز على الكائن ضمن وضعياته المعاشة وفي علاقاته مع الخارج، مما يجعل الإدراك مرتبطًا بصورة وثيقة بأبعاد الكائن النفسية والجسمانية على حدّ سواء. ولذلك يستنتج باشلار، أنه لا يجوز التشبث بالمحمولات المعرفية للمستوى الإدراكي، لأن الإدراك لا يشكل معرفة موضوعية، بل يصح اعتباره واحدًا من العوائق المعرفية التي تحول دون قيام العلم.


ملاحظات ختامية:

إن طروحات النظريات المختلفة حول الإدراك تدعونا إلى استخلاص بعض النتائج:

إذا كان لا يصح اعتبار الإدارك معرفة موضوعية، إلا أن الإدراك يبقى مع ذلك المقدّمة الضرورية الأولى لكل معرفة ممكنة. فالإدراك هو نشاط توليفي وتوحيدي يقدّم الإحساسات المفككة أصلاً ضمن وحدة تجمع مباشرة كل العناصر، مما يسمح للشخص بالتالي لأن يقوم بالعمليات البرهانية وأن يباشر بالأحكام العقلية.

وإذا كان الإدراك هو المقدمة المنطقية لإنتاج الأحكام، فإن الإدراك نفسه ليس نتيجة لتركيبات عقلية يقوم بها الوعي من خلال تجميع الإحساسات وتوليفها. فالواضح إذًا أن طبيعة الإدراك لا ترتد إلى آلية عقلية أو مسار واضح يقضي بتدخل العقل، فالإدراك هو معطى كلي مباشر، إنه بنية كلية حاضرة في الوعي.

لكن هذا الوضع الفطري المباشر الذي يحكم عملية الإدراك لا يعني البتة أن الإدراك يتجاوز العوامل الذاتية وينحو باتجاه الموضوعية. فالإدراك من جهة أولى يمتاز بطابع فطري يجعله منوطًا بالعوامل الذاتية وبحاجات الشخص وقيمه وموقفه من العالم. ولذلك يلاحظ برغسون أن الإدراك يقدّم لنا العالم من زاوية منافعنا وميولنا. وهذا ما يجعل الإدراك فارغًا من المحمولات القيمية المسبّقة، أي أن الكائن هو الذي يشكل الصورة الإدراكية بالشكل الذي يتلاءم مع حاجاته وقيمه ومنظوره الخاص.

ومن جهة ثانية فإن للإدراك استهدافات ومقاصد موضوعية. فحين نخلّص الإدراك من فطريته الأولى، ومن الإغراق في الذاتية، نسهم إلى حدّ كبير في تحويل إدراكاتنا الذاتية وتعبيراتها الجسمانية والنفسانية إلى إدراكات علمية ومعارف منضبطة تتسم بالشمول والموضوعية. ولذلك يقترح باشلار تخليص معارفنا من كل محمولات الإدراك الذاتية عبر القيام بتحليل نفسي للمعارف لتحويلها إلى معارف علمية موضوعية أو بنيات عقلية واضحة.

إلا أن الوصول إلى هذا المستوى العلمي المنضبط للمعرفة لا يتحصل فقط بطريقة التحليل النفسي للمعارف التي اقترحها باشلار. فالعلوم المنضبطة لا يمكنها أن تعتمد بصورة حصرية على ما يقدّمه الإدراك الفطري من معطيات حسية، بل عليها مجاوزة المعطيات والحدود الإدراكية المباشرة والفطرية. بالتالي فإن اللجوء إلى استخدام تقنيات متطوّرة تقدم لنا ما لا يقدّمه الحس، وكذلك استخدام أدوات القياس ولغة الأرقام، كلها طرائق أساسية تتجاوز الإدراك الفطري وتؤسّس للعلم الموضوعي.








مبحث العلوم الاختبارية = ( التجريبية)



تتميز علوم المادة عن الرياضيات لجهة موضوعاتها وطرائقها. فالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ليست من طبيعة تجريدية ولا هي من إبداعات الفكر المحض. إنها علوم ترتبط بالحس وبالتجربة، وهي تدرس موضوعات مادية وظواهر طبيعية، إذ إنها تتوزع بين دراسة مبادئ وقوانين الحركة والسرعة والضوء… أو دراسة تركيبة المادة وتحوّلاتها… أو دراسة الأجسام الحية ووظائفها. هذا لجهة موضوع الدراسة الذي يتراوح ما بين العلوم الفيزيائية أو الكيميائية أو علوم الأحياء. أما لجهة الطريقة المتبعة في هذه العلوم المادية أو الطبيعية فهي بطبيعة الحال مختلفة جذريًا عن الاستدلال المتّبع في الرياضيات. فعلوم المادة بمختلف فروعها، وكلّ حسب خصوصياتها، تخضع بنسب متفاوتة إلى المسار التجريبي أي ما يعرف بالطريقة الاختبارية الاستقرائية التي تنطلق من الملاحظة وتبني الفرضيات ثم تتحقق منها بالتجريب قبل أن تستخرج القانون العلمي.



المسار التجريبي الاختباري:

تقضي دراسة الوقائع المادية والقوانين التي تحكمها باستخدام الطريقة الاختبارية التي تنطلق من الواقع المحسوس قبل المباشرة بإطلاق أي حكم عقلي. وهذا المنطلق الحسّي التجريبي مناقض تمامًا لكل الافتراضات الميتافيزيقية القديمة التي شوّهت علوم المادة وألحقتها بمبادئ ما ورائية وجواهر ثابتة جعلت تفسيراتها مغلوطة وغير علمية.

ولقد بيّن كلود برنار الطريق الواجب اتباعة في علوم المادة، فحّدد لها مسارًا يمرّ بثلاث مراحل: الملاحظة والفرضية والتجربة.

فالملاحظة هي الخطوة الأولى التي توحي بالفرضية. أما الفرضية فهي الفكرة الجديدة التي تفسر الظاهرة العلمية. أما التجربة فهي الاختبار الذي يسمح بإثبات الفرضية وتحويلها إلى قانون أو رفضها والبحث عن فرضية أخرى. والواقع أن هذه المراحل الثلاث تتضافر وتتكامل فيما بينها للوصول إلى التفسير العلمي المطلوب إن لجهة الدقة أو لجهة الشمول.

أ- ملاحظة الظواهر:

ليست كل الظواهر المشاهدة في الطبيعة قابلة لأن تكون موضوعًا للعلم. فالظاهرة التي يدرسها العالم هي الواقعة الطارئة التي تنقض المفاهيم والنظريات السائدة وتخالفها. فالملاحظة العلمية هي خاصة بأزمات العلم الناتجة عن وقائع مستجدّة كذّبت بعض النظريات وأفقدتها قيمتها التفسيرية. والحادثة المستجدّة حسب تعبير باشلار هي واقعة جدالية un fait polémique تنقض النظام السائد.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك هي الملاحظة التي أثارت اهتمام عمال الآبار في فلورنسة عام 1643م، حيث لفتت نظرهم ظاهرة عدم تقدّم الماء في القساطل الفارغة ووقوفها عند ارتفاع 18 ذراعًا أي ما يساوي 10.33 أمتار. وهذه حادثة جدالية كونها تناقض النظرية الفيزيائية المعروفة في تلك الحقبة والتي اشتهرت بقاعدة: الماء يخشى الفراغ ويملأه.

هذه الحادثة دفعت عددًا من العلماء من أمثال غاليله وتوريشللي وباسكال للبحث عن الفرضية الجديدة التي يصح اعتمادها كحلّ جديد يتجاوز النظرية القديمة ويفسّر الإشكال الحاصل.

والجدير ذكره أن الكشف عن ظواهر جدالية وإشكالات علمية يرتبط بصورة وثيقة بمدى تطوّر آلات المراقبة والملاحظة العلمية. فكلّما تطوّرت الآلة وابتعدت عن بساطة المشاهدة بالعين المجرّدة، استطاعت أن تغوص في دقائق الموضوعات والأجسام وتكشف عن خبايا لم يعهدها العلماء من قبل. فالتطوّر الذي شهدته علوم الفيزياء والكيمياء والفلك وحتى البيولوجيا، مرتبط دون أدنى شك بتطوّر أجهزة المراقبة والملاحظة من ميكروسكوبات وتلسكوبات وسكانر وغيرها.

الواضح إذًا أن الملاحظة العلمية المقصودة هنا ليست مشاهدة عادية يقوم بها أي شخص، وإنما هي مرتبطة أساسًا بالعقل العلمي عمومًا وبنتاجاته التقنية. فهي من جهة أولى مرتبطة بالمعرفة التامة بنظريات العصر العلمية. وهي من جهة ثانية مرتبطة بتطوّر آلات المراقبة وتقنياتها. فالمعرفة بالنظريات هي التي تتيح للعالم معرفة ما إذا كانت الوقائع والحوادث مطابقة لمقتضى التنظير. أما الآلات والأجهزة التقنية فهي التي تمكّن العالم من ملاحظة دقائق وخفايا لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة. ولا يخفى كذلك ما للآلة والتطوّر التقني من دور هام في تكوين المعرفة العلمية، إذ هي التي تحوّل العالَم المُعاش و المحسوس إلى عالَم معقول. فالألوان والأصوات لا يتعامل معها العالِم كمعطيات حسية، بل هو يعمل على تحويلها إلى كثافة ذبذبات وتموّجات، فتصبح معاينة العالم وملاحظته، ومن خلال أجهزته المتطوّرة، مختلفة كلّيًا عن مشاهدات الإنسان العادي المعلومة بالإدراك الحسي.

ب- الفرضية أو تفسير الحوادث:

الفرضية هي الفكرة الجديدة التي يبدعها العالم بهدف تفسير واقعة طارئة أو حادثة مستجدّة. فهي الافتراض العقلي الذي يوجّه البحث العلمي باتجاهين: الأول يختص بالكشف عن سبب حصول الظاهرة عبر قانون جديد لم يكن معروفًا من قبل، والثاني هو إخضاع التفسير الجديد أو القانون المكتشف للتجربة وذلك لاختبار صحة المطابقة بين النظر الفكري والواقع العملي.

وبهذا الشكل تكون الفرضية همزة الوصل بين التنظير والتجريب أي بين العقل الذي يفسّر الواقع، وبين التجربة التي تؤكد صحة التنظير العقلي. لذلك يعوّل كلود برنار الكثير من الأهمية على دور الفرضية في المعرفة العلمية حين يقول أن الاكتشاف الحقيقي لا يكمن في اكتشاف الظاهرة أو الحادثة المستجدّة، بل هو يكمن في اكتشاف الفكرة الجديدة المرتبطة بالحادثة، أي بالفرضية وبالتفسير العقلي الجديد.

وعلى خلاف كلود برنار فقد شدّد التجريبيون من أمثال ماجندي على أهمية مرحلة الملاحظة وأوّليّتها في المعرفة العلمية. فالملاحظة الجيّدة بنظر ماجندي أفضل من كلّ أفكار العالم وفرضياته. فالعقل ليس له أي دور فاعل وإيجابي في البناء العلمي، إذ أن الملاحظة الجيّدة كفيلة لوحدها بإنتاج التفسيرات.

لكن هذا الرأي التجريبي ليس له أي سند واقعي إذ إن الفرضية هي المنطلق الأساسي لكلّ عمل فكري وتنظير عقلي، وهي التي تمهّد الطريق لإجراء التجربة والاختبار. كذلك لا يمكن الموافقة على رأي الفريق الآخر من التجريبين الذين اعتبروا أن الفرضية أو تفسير سبب الحادثة وعلّة حدوثها موجودان سلفًا في التجربة، بحيث يصبح عمل العقل ثانويًا وغير تأسيسي في الكشف عن علّة حدوث الحادثة. فمثل هذا الرأي المستمد من تجريبية “ستيوارت مل” لم يعد مقبولاً في أيامنا لأن سبب الحادثة، أو علّة حدوثها، تكون في البدء فكرة أو علاقة مخفية وغير ظاهرة للعيان. من هنا يأتي دور الافتراض العقلي والمخيّلة العلمية. إذ لا بدّ بادئ ذي بدء من المباشرة بافتراض السبب عقلاً. فالعقل المستنير بأصول البحث العلمي والمخيّلة العلمية المبدعة هي من أهم خصائص العالم المبدع الذي يكتشف الفرضية أو الفكرة الجديدة.

وهذا هو بالفعل شأن العلماء من مثل توريشللي الذي استخدم مخيّلته العلمية في اكتشافه لفرضية الضغط الجوي. فبإزاء الحادثة التي لاحظها عمّال الآبار في فلورنسة، افترض توريشللي أن طبقات الجو تشكّل قوة ضاغطة على سطح الماء جعلته لا يصعد أكثر من 10.33 أمتار، وكذلك هو يشكّل قوّة ضاغطة على سطح الزئبق الذي لم يرتفع في الأنبوب الملتوي أكثر من 76 سم.

يظهر مما تقدّم أن الفرضية هي تفسير عقلاني لظواهر الطبيعة، فهي من نتاج العقل الذي يحاول إيجاد الحلول لإشكالات الوقائع الجدالية. والواضح أن العالم لا ينطلق في وضعه للفرضيات من نقطة الصفر، أو من الجهل التام حسب عبارة باشلار، بل هو ينطلق من النتاج العلمي الحاضر بين يديه، ليس بهدف نقضه ورفضه، ولكن بهدف تصويبه وتصحيح مساره.

ومما يجدر ذكره أخيرًا أنه لا يضير العالم، إبّان إجرائه للبحوث العلمية، الوقوع في بعض الفرضيات الخاطئة، إذ إن مثل هذه الفرضيات هي التي تمهد الطريق أمام العالم للوصول إلى الفرضية الصحيحة.


ج- الاختبار أو التحقّق التجريبي:

ليس للفرضية أية قيمة علمية فعلية إذا لم يتم التحقق منها بالتجربة والاختبار فهي تبقى احتمالاً ممكنًا وفكرة مؤقتة حتى يتم التثبت منها أو نفيها عبر التجربة والاختبار. فالتجربة هي التي تحكم على صدق الفرضية.

وبالفعل فإن الكوكب التاسع الذي افترض “لوفرييه” وجوده، ظلّ كوكبًا مفترضًا حتى تمّت رؤيته بالتلسكوب عام 1846 من قبل العالم غال Gall. مع ذلك يبدو من الضروري التنبّه للدور الذي تلعبه الفرضية في مسار العلم. إذ لو لم توجد فرضية “لوفرييه” وفكرته الجديدة التي أعادت انسجام حركة أورانوس مع نظرية الجذب الكلي النيوتني، لما فكّر أي إنسان بالبحث في أرجاء الفضاء عن الكوكب المفترض، ولما استطاع “غال” أن يشاهد الكوكب نبتون.

لكن التجريب والاختبار ليس دائمًا عبارة عن مشاهدة عيانية، فالتجارب والاختبارات عديدة ومتنوعة، وأغلب الاختبارات تلجأ إلى إجراء تجارب في ظروف خاصة ومحدّدة، وتلجأ إلى تكرار التجربة أكثر من مرّة، كما تلجأ إلى تغيير الظروف المرافقة للتجربة بهدف معاينة مدى صحة القانون الجديد والحالات التي ينطبق عليها أو الاستثناءات التي لا يشملها.

فالواقعة المطلوب تفسيرها يمكن تكرارها اختباريًا عدة مرات وبأشكال مختلفة، ويمكن بالتالي، وفي كل مرة على حدة، ملاحظة ما يؤدي إليه تغيير الظروف الاختبارية من تغييرات على صعيد نتائج التجربة. فقوانين الطبيعة لا تنكشف بسهولة. ولذلك يبقى دور العالم في مرحلة التجريب دورًا مميّزًا، حيث يغيّر وينوّع في تجاربه بالقدر الملائم الذي يسمح باستنباط القانون الشمولي الذي يغطي مختلف أبعاد الظاهرة المدروسة. وهذا بالفعل ما حصل مع توريشللي وباسكال، وكذلك مع غاليله ولا فوازييه وغيرهم…


التجريب والمسار الجدلي:

إن العلاقات ما بين النظر الفكري والتجربة هي علاقات من طبيعة جدلية. فالنظر الفكري هو في أساس ولادة التجربة، ولكنه حين يصل إلى المستوى التجريبي فهو يعيد النظر في معطياته النظرية ليلائمها مع مقتضى التجريب والتطبيق العملي. فكما تؤسس النظريات لقيام التجارب، فإن التجريب بدوره يعمل على تصويب النظريات والمعارف. وبهذا الشكل يصح القول أن معارفنا ليست يقينية ولا هي إطلاقية، بل إنها لا تعدو كونها معارف نسبية. ولذلك فإن مسار العلم ليس في واقعه انتقال من يقين إلى يقين أو من واقعة ثابتة إلى واقعة أخرى، بل هو مسار يعتمد على بداهات أو معارف مؤقتة.

فالتقدم العلمي هو حركة مستمرة تنتقل من قضية إلى أخرى عبر حركة جدلية أو مسار تجاوزي. فحين تكذب التجربة نظرية ما، فإنها لا تقضي على كلّ نظر فكري، بل هي تستدعي إطلاق العنان من جديد للنظر الفكري لكي يبتدع فرضية جديدة بمقدورها أن تنقلب إلى نظرية أو فكرة مؤقتة تخدم العلم ردحًا من الزمن.

الواضح إذًا أن العلم لا يصوغ نظمًا فكرية نهائية ومطلقة. فالظواهر التي يدرسها العلم تتجدد باستمرار ولا تثبت على حال واحدة، الأمر الذي يجعل من العلم فعل استمرارية وديمومة.


السبب والقانون:

فكرة السبب قديمة وهي أقرب إلى فطرة الإنسان من فكرة القانون. فالسببية ترتبط بالفكر الفلسفي عامة. فقد اعتبر أرسطو أن الانتقال من القوة إلى الفعل يخضع لإمكانات كامنة في الأشياء = (الأسباب). كما أن هذا المبدأ السببي نفسه شكل الركيزة التي تأسس عليها برهان وجود السبب الأول، صانع الكون.

أما فكرة القانون فقد ارتبطت من جهتها بتاريخ العلم، تحديدًا بظهور العلوم الحديثة. صحيح أن المعارف اليونانية القديمة قد شهدت قانون أرخميدس عن السوائل إلاّ أن هذه الفكرة لم تظهر بجلاء ووضوح إلا إبان النهضة العلمية الأوروبية التي شهدت تحركًا واسعًا باتجاه النهج الوضعي الذي يعمد إلى القوننة في تفسير الأشياء.

ومع تحول الفيزياء إلى النهج الوضعي أخذت القوانين العلمية بالظهور لتحل محل فكرة السبب. فبدءا من “غاليله” لم يعد البحث عن السبب ضروريًا، فهو ركّز على فكرة القانون أي التفسير الدقيق والمنضبط الذي يكشف العلاقات الثابتة والضرورية بين الظواهر.



مع ذلك فإن مبدأ السببية لم يختف تمامًا من قاموس الفكر العلمي. فقد اعتبر “مايرسون” أن التفسير العلمي يجب أن يتضافر مع تحديد لهويات الأشياء وعلاقاتها الداخلية. وهذا يعني أن معرفة القانون لا تكفي بل يجب استكمالها بمحاولة شرح القانون والبحث عن أسبابه.

باختصار فإن الشرح بالحتمية لا بدّ وأن يستكمل بالسببية. وهذا ما قام به “أينشتاين” حين فسّر الجاذبية بأسبابها الطبيعية وبقوانينها الرياضية. فمبدأ الحتمية لم يلغِ مبدأ السببية، بل استمر فلاسفة العلوم بالجمع بين المبدأين.








مبحث الرياضيات


ما هي الرياضيات؟ محاولة تعريف:

يبدو للوهلة الأولى أن الرياضيات مختلفة عن سائر العلوم، فهي تشكل عالمًا مستقلاً وأصيلاً يرتكز على العقل النظري المحض من دون اللجوء إلى الواقع الخارجي أو إلى المختبرات والأدوات سواء البسيطة أو المعقدة منها. ولقد ذهب البعض إلى حدّ القول أنّ عالِم الرياضيات لا يحتاج إلا إلى لوح أسود وطبشورة. من جهة أخرى علينا أن نلاحظ صعوبة التعريف بالرياضيات بسبب فروعها المتنوعة وموضوعاتها وميادينها الغنية.

مع ذلك يمكن الأخذ بتعريف ديكارت للرياضيات على أنها علم النظام والقياس. والواقع أنه لا يمكن الكلام عن رياضيات واحدة بعينها. ولكن كل كلام على الرياضيات لا بدّ وأن يشتمل على كافة فروعها. فالحساب هو علم الكمّ المنفصل أو علم العدد، والجبر هو الحساب التعميمي، والهندسة هي علم الكم المتصل أو الأحجام القابلة للقياس، ومنذ القديم كان للرياضيات شأن عظيم إذ أن فيثاغورس استطاع أن يوحد العالم في نظام رياضي وحسابي وأشار أفلاطون من جهته إلى أهمية الرياضيات من خلال ما كتبه على مدخل مدرسته الأكاديمية: من ليس برياضي لا يدخل هنا.


I- أصل ومصدر الرياضيات

ما هو أصل ومصدر المفاهيم الرياضية؟ هل هذه المفاهيم متأتية من التجربة الحسية أم أن مصدرها هو العقل المحض؟

أ- النظرية التجريبية:

إن نزعة التجريب تعتمد على المذهب القائل بأولية التجربة وأسبقيتها. فالحقيقة ليست مستقلة عن التجربة بل هي تابعة لها ونابعة منها. والمفاهيم الرياضية هي حقائق مستمدة مباشرة من التجربة الحسية ومن الملاحظة. وفي هذا الصدد كتب جون ستيوارت ميل (J.S.Mill) أن النقاط والخطوط والدوائر الموجودة في تفكيرنا ليست سوى نسخًا من الخطوط والنقاط والدوائر التي عرفناها بالتجربة وخبرناها بالحس. فالوقائع والموضوعات هي التي مهدت لظهور المفاهيم الرياضية، فمن الأفق استوحى الفكر الرياضي مفهوم الخط، ومن الشمس صدرت فكرة الدائرة، وعن جذع الشجرة ولد مفهوم الإسطوانة،. كذلك فإن فكرة العدد جاءتنا من خلال إدراكنا لتعددية الموضوعات المحسوسة.

وبالرغم من أن المفاهيم الرياضية تتبدى مثالية، فإننا نلاحظ أنها تنطبق على الوقائع وعلى التجربة. فالرياضيات تستخدم علميًا لقياس الظواهر الفيزائية. ولا يمكن لأحد أن يماري في التشابه الموجود ما بين المفاهيم الرياضية من جهة وما بين الوقائع التجريبية من جهة أخرى. وهذا التطابق ما بين الترميز الرياضي والواقع فسّره اتباع التجريب بأسبقية التجربة على الواقع، وبكون المفاهيم الرياضية نسخًا عن المعطى الحسي والتجريبي، وهذا ما رفضته النظريات المثالية التي قدّمت الفكر على الواقع.

ب- النظرية المثالية (العقلية)

يرى بعض الفلاسفة المثاليون أن المفاهيم الرياضية هي مبادئ قَبْلية (a priori) بديئة سابقة على التجربة ومستقلة عنها، فالعقل هو الذي ينتجها بغضّ النظر عن الوقائع. ويعتقد أفلاطون بوجود عالم مثالي أي عالم من الأفكار والجواهر. إنه العالم الحقيقي حيث تسعى الموضوعات الواقعية الحسية إلى محاكاته ومماثلته.

ويقول غوبلو (Goblot) إذا كانت موضوعات العلوم التجريبية محكومة بقوانين تجريدية تستهدف تفسير ومعرفة الواقع، فإن الرياضيات من جهتها، هي معرفة مستقلة عن الوقائع، وليست بحاجة لأن تكون موضوعاتها واقعية لكي تكون صحيحة وواضحة. بهذا الشكل، فإن المكان الهندسي هو امتداد عقلاني محض وليس امتدادًا محسوسًا. فالخط الذي نرسمه وكذا الدائرة، لا تتمتع بالكمال أما فكرة الخط وفكرة الدائرة فهما تابعتان لعالم الأفكار والجواهر، وهما أفكار رياضية كاملة حسبما يدعي أفلاطون.

فالمفهوم الرياضي هو الفكرة المكتملة التي يحتذي عالم الرياضيات حذوها ويشتغل في عملياته من خلالها. هذا يعني أن المفاهيم الرياضية موجودة في عالم مثالي محلق ومكتمل، ثم تأتي الموضوعات والأشكال الواقعية لتستوحي منها طابعها الرياضي. وكما تحدث أفلاطون عن عالم مثل يشتمل على أفكار رياضية، فقد اعتبر كانط (E. Kant) المكان شكلاً قبليًا للحواس، والكمية مقولة قَبْلية من مقولات الذهن. فالمفاهيم الرياضية هي من طبيعة العقل ذاته فهي عامة وضرورية وثابتة بعكس الوقائع الاختبارية.

ج- النظرية العملانية:

يعود الخطأ في النظريتين السابقتين إلى إهمال الجانب البنائي العملي (Le caractère opératoire) في الفكر الرياضي. فالرياضيات ليست انعكاسًا سلبيًا للوقائع المحسوسة والتجريبية ولا هي انعكاس للفكر المجرد. إنها تُمثل النشاط المبدع في الفكر الإنساني ومن المستحيل أن نفصل العمليات الرياضية عن الفكر أو عن التجربة. فالإتجاه العقلاني يغلط بجعله المفاهيم الرياضية محلقة في عالم مثالي منقطع عن الواقع. فالرياضيات ليست علومًا عقلية خالصة بل هي متصلة بأصلها الاختباري وبمطابقتها للعمليات الرياضية. فالمفاهيم والبديهيات الرياضية، وإن كانت ذات طابع عقلي وإبداعي، إلا إنها وثيقة الصلة بأصلها الحسي.

وبالفعل فإن العمليات الرياضية النظرية كانت في الأصل تقنيات عملانية محسوسة. فالهندسة كانت عملية مسح للأراضي بطريقة القسمة التربيعية. والأعداد كانت مرتبطة بأعضاء الجسم وخصوصًا الأيدي والأصابع. فالأعداد الرومانية هي على شكل الأصابع المنفرجة V، أو المتوازية III، أو المتقاطعة X.

كما أن حساب البيع كان يعتمد قديمًا على مماثلة كميات الأغراض بكميات من الحصى، فقد كانت كميات الحصى شواهد محسوسة على عمليات البيع بالحصى.

بهذا الشكل فإن الكائنات الرياضية ليست لا أشياء مدركة بالحس ولا أفكار متأملة بالنظر العقلي. ولكنها أدوات تقنية وعملانية، أي أدوات صالحة لإجراء العمليات.

كذلك فإن مفاهيم العدد، لها أصل تقني وعملي شبيه تمامًا بما رأيناه عن الهندسة المتأتية من مسح الأراضي. فالعدد بدأ وثيق الصلة بالموضوعات المادية التي نحسها ثم انطلقت العمليات نحو الطابع التجريدي التعميمي. والقيمة التي تتخذها الأعداد في عالم العمليات الرياضية تتأتى من صلاحيتها للعمليات وليس من مصادرها سواء منها المثالية أم الواقعية.

فالعدد صفر على سبيل المثال لا يمثل شيئًا على أرض الواقع، مع ذلك لا غنى عنه في العمليات الرياضية. كذلك هو الأمر بالنسبة للأعداد السلبية (nb. négatives) والكسور والأعداد المتخيلة، فهي جميعًا تمتاز بقدرتها على إجراء العمليات الرياضية.



II – البرهنة:

البرهنة حسب لايبنتز هي طريقة منطقية، من خلالها، تصبح قضية من القضايا ذات طابع يقيني. وفي القديم كان القياس الأرسطي نموذجًا للبرهان الضروري لأنه يؤمن مطابقة كاملة بين النتيجة والمقدمات، فهو نموذج للبرهان الحشوي.

وإضافة إلى هذا البرهان الأرسطي الإستدلالي فقد وجد برهان آخر عند أرسطو سُمِّيَ بالإستقراء، وهو نموذج للبرهنة الخصبة، لكنه لا يوفر الضرورة واليقين، بل إنه نقلة غير يقينية من الأجزاء إلى الكل فهو يفتقر بالتالي إلى الضمانة المنطقية.

أما البرهان الرياضي فهو يحقق في الوقت ذاته الضرورة المنطقية الإستدلالية والخصوبة الإستقرائية. فهو في الأساس برهان حشوي (تكراري) يعتمد الاستدلال ليوفر مماثلة كاملة داخل القضايا ذاتها، وبينها وبين المقدمات. مع ذلك فإن البرهان الرياضي ليس عبارة عن استدلال بسيط أو قياس إثباتي على النمط الأرسطي. فالقياس وإن كان ضروري بالإطلاق، إلا أنه تكراري ولا يضيف شيئًا إلى معرفتنا.

فعندما نستنتج بالقياس الإثباتي أن سقراط فانٍ = (مائت)، فإن هذه النتيجة هي أساسًا متضمنة في المقدمة العامة الكبرى: كل إنسان فان.

فالقياس الأرسطي الذي يسمى استدلالاً أو استنساخًا ما هو إلا برهان عقيم = (لا ينتج معلومات جديدة)، فهو ينتقل من العام (المقدمات الكبرى) إلى الخاص (النتيجة) حيث ينقطع الاستنتاج.

إن القياس الاستدلالي الأرسطي يعتمد فقط على علاقة التضمن أو الاشتمال. أما البرهنة الرياضية المعروفة بدقتها وخصوبتها فهي على خلاف القياس الإثباتي مبدعة وخلاقة لأنها تصوغ علاقات أكثر تنوعًا من علاقة التضمن والإنتماء.

فمسألة التكرار والتماثل في العلوم الرياضية ليست واضحة بل ينبغي أن نعمل على إيجادها عبر بعض الاستدلالات والمماثلات، وهذا ما يضفي على الرياضيات طابع الخلق والإبداع وطابع البنائية، خاصة لأن المماثلات لا تبرز إلا نتيجة سلسلة من الاستبدالات، وكل استبدال أو تدخل يدل على خاصية الإبداع التي يتمتع بها الفكر الرياضي.

الواضح إذًا أن المماثلات الرياضية تخترع اختراعًا. ومن الأمثلة على ذلك عندما نتساءل رياضيًا عن مجموع زوايا المتعدد الأضلاع (الـ Polygone) فإن الفكر الرياضي يعمل على إنشاء وبناء مثلثات داخل هذا المتعدد الأضلاع لكي نحصل على مجموع زواياه. وفي هذه الإمتدادات البنائية دلالة على أن العمليات الرياضية هي إبداعية وخلاّقة.

يلاحظ غوبلو أن القياس الإثباتي وكذلك الاستدلال الأرسطي ينطلقان في الأغلب من الخاص إلى العام. أما البرهان الرياضي فهو برهان تعميمي. فعندما أعرف مجموع زوايا المثلث يمكنني أن أعرف بالبرهنة الرياضية مجموع زوايا المتعدّد الأضلاع. فمن خلال حالة خاصة أنطلق لمعرفة حالات أخرى عبر الربط أو الإبدال وما شابه من العمليات الرياضية. فالبرهنة الرياضية، بالرغم من كونها استدلالية وحشوية، إلا أنها تستخدم بعض البناءات الجديدة من مثل المبادرة إلى إجراء إمتداد في رسم هندسي أو إضافة رموز في معادلة بهدف الوصول إلى حل جديد.

وإضافة إلى هذا الفكر البنائي يذهب “بوانكاريه” إلى حدّ الاعتقاد بفاعلية الحدس في البرهنة الرياضية، فيقول أن الحدس هو الأداة الأكثر ملاءمة للإبداع في الفكر الرياضي وسواء أكانت حسية أم عقلية فإن الحدوس، أي المعارف المباشرة الفجائية، لها مكانتها في الفكر الرياضي. ففيما وراء الموضوعات الحسية والأشكال يبدو أن الأعداد وكذلك الأشكال المنطقية الصورية هي محصّلة ضرورية لعمل الحدس ولعمل التخيل الخلاق.

مع ذلك علينا أن نؤكد أن البرهنة الرياضية لا تعتمد حصرًا على الحدوس، بل هي مضطرة لاستخدام الطرائق المنطقية، لأن المنطق هو الأداة الرئيسية في عمليات البرهنة وهو الطريق الوحيد للحصول على اليقين الرياضي.

ومن أساليب البرهنة المنطقية المتبعة في الرياضيات الأسلوب التحليلي الذي يعمل على تحليل المسائل إلى معطيات وقضايا بسيطة يستطيع الرياضي أن يردها إلى المسلمات والمنطلقات أي المبادئ الأولى الرياضية التي سبق وأقرّ بها.

وهذا الطريق التحليلي والإمتدادي نحو المسلمات ليس دائمًا مسلكًا مباشرًا، بل إن التحليل الرياضي يتخذ مسلكًا معقدًا، إذ هو يَعْمدْ في الكثير من الأحيان إلى الطرق غير المباشرة، من مثل البرهنة بالخلف أي الإستدلال على صحة القضية من خلال تبيان فساد نقائضها.

أخيرًا وإذا ما تأملنا البرهنة الرياضية التتابعية، نكتشف أن في التفكير الرياضي نوعًا من الاستقراء أطلق عليه بوانكاريه اسم التفكير بالشمول لأنه يقوم على تعميم نتيجة من خلال بعض الحالات الخاصة المتتابعة. ولكن “غوبلو” يرفض اعتبار التفكير بالشمول أو الاستقراء برهانًا يعتمده الفكر الرياضي.

مثال عن البرهان التتابعي: (Le raisonnement par récurrence)

هذا برهان استقرائي رياضي يقيني كما يرى “بوانكاريه” يستعمل في الحساب والجبر، ويقوم على انسحاب خاصية مُثْبَتَةٍ في حالات متناهية على سلسلة غير متناهية. فإذا أردنا البرهنة أن (1 + أ)ن > (1 + أن) علمًا أن “أ” هو عدد إيجابي و “ن” عدد أكبر من الواحد. فإننا نبرهن أولاً أن هذه المعادلة إذا كانت صحيحة لعدد “س” من العدد “ن” فتكون صحيحة بالضرورة لعدد (س + 1) وهكذا إلى آخر السلسلة.

وبالاستقراء نضع أن هذه العلاقة صحيحة لكل قيم “ن” المتزايدة على التوالي إلى ما لا نهاية.

لكن “غوبلو” يرى إن وثوق هذا البرهان ليس تابعًا للاستقراء، بل هو مرتكز إلى القضية العامة المبرهنة في البداية والتي تعطينا الحق بالتعميم، فهو إذًا سلسلة من الاستدلالات الخفية المتتالية. نخلص من ذلك إلى القول أن البرهنة الرياضية ذات الطابع الخلاق هي برهنة تتبع الطريقة الفرضية الاستدلالية.


III – التعاريف – المسلمات – النظم الرياضية.

أ‌- التعاريف:

تختلف التعاريف الرياضية عن التعاريف الطبيعية. فهذه الأخيرة هي مجرد وصف لأشياء موجودة في الطبيعة وسابقة على التعاريف.

إن العالِمْ الطبيعي عندما يعرف أي نوع من الحيوانات، فهو لا يُوجِدْ هذا النوع، بل إنه يكتشفه، ويصفه ويصنفه بالنسبة للأنواع الأخرى. أما الحقائق الرياضية، كالدائرة مثلاً، فلا وجود لها في الطبيعة، بل إنها من إبداع العقل ذاته. فالدائرة الهندسية ليست شكلاً مستديرًا محسوسًا، بل هي بالتعريف الشكل الكامل الحاصل من حركة نقطة في سطح على بعد واحد من نقطة أخرى ثابتة هي المركز. فالشكل المستدير يوحي بالدائرة، لكن العقل هو الذي يبدعها. كما أن هناك مفاهيم رياضية مثل الصفر والأعداد التخيّلية لا وجود لها في الواقع، بل هي نتيجة عمل ذهني صرف. وهناك مثل آخر على هذا الإبداع العقلي. فالصفة اللامتناهية للأعداد متضمنة في قانون تكوينها. فتكون لا نهائيتها عملاً استنتاجيًا وليس استقرائيًا.

ب- المسلّمات:

هي أقاويل رياضية لا يُبَرْهَن عليها، ويُطلب منا أن نقبلها كمسلّمات فقط لتحقيق البناء الرياضي: مثل مسلّمة اقليدس بأننا من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما، نستطيع أن ننشئ خطًا واحدًا موازيًا لهذا الخط. ونحن نستنتج من هذه المسلّمة ما يترتب عليها من قضايا دون أن تكون هي مستنتجة من غيرها.

لكن هذه المسلّمات الاقليديسية تبدلت تبدلاً جذريًا مع ظهور الهندسات اللاإقليديسية، فقد حاول العلماء أكثر من مرة برهنة مسلّمة المتوازي، ولكن دون جدوى. وتكررت المحاولات في القرن التاسع عشر مع علماء أشهرهم “لوبتشفسكي”. وتركزت محاولة هذا الأخير على برهان الخُلْف = (Raisonnement par l’absurde). فافترض أننا نستطيع من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما أن ننشئ عددًا لا متناهيًا من المتوازيات. واستطاع أن يستنتج من هذه الفرضية اللاإقليديسية سلسلة من القضايا المنسجمة والمختلفة عن قضايا اقليدس والمساوية في منطقية استنتاجيتها لهندسة اقليدس. من هذه القضايا اللااقليديسية أن مجموع زوايا المثلث يساوي أقل من زاويتين قائمتين. ففي هندسة لوبتشفكي يكون المكان ذا انحناء سلبي، ويكون مجموع الزوايا أصغر كلما كانت مساحة المثلث أكبر.

وقام “ريمان” بعمل مماثل عندما افترض أننا من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما لا نستطيع أن ننشئ أي متواز لهذا الخط. ورفض أيضًا مقولة اقليدس بأننا لا نستطيع أن ننشئ بين نقطتين سوى خط واحد. وتوصل بالاستنتاج الرياضي إلى نظام هندسي مختلف عن النظام الاقليديسي. ونظام لوبتشفسكي. وهو نظام منسجم ومتكامل، وقضاياه مختلفة عن قضايا اقليدس ولوبتشفسكي. ومنها أن مجموع زوايا المثلث يساوي أكثر من زاويتين قائمتين. ويمكن تصور هذا النظام الهندسي إذا اعتبرنا المكان كرويًا بانحناء إيجابي. فكل دوائر هذه الكرة تكون متقاطعة لأننا نستطيع أن ننشئ بين نقطتين أكثر من خط.

فمن الممكن إذًا الوصول إلى قضايا رياضية غير متناقضة انطلاقًا من فرضيات غير إقليديسية. هكذا تفقد فرضية اقليدس الخاصة بالمتوازيات صفة الضرورة، على اعتبار أن نقائضها مقبولة ومنتجة في الوقت ذاته. وفي هذا الموقف إنكار لرأي “كنط” القائل بأن المكان الاقليديسي هو الشكل الضروري والعام في الذهن الإنساني. وهكذا تفقد هندسة اقليدس صفة الإطلاق وتصبح مجرد حالة خاصة بالمكان المستوي المعدوم الإنحناء (Courbure nulle).

مع ذلك فإن تطور الرياضيات لا يدعونا إلى إنكار الحقائق الرياضية السابقة، بل إلى اعتبارها حالة ممكنة من مجموع أوسع. فالتطور هنا في مجال الهندسة كان نتيجة تحويل ثابتة المكان المستوي إلى متغيرة يمكن أن تأخذ أشكالاً أخرى حسب تصوّرنا لمفهوم الفضاء.

وهكذا لم يعد في الرياضيات مسلّمات يصح اعتبارها كحقيقة مطلقة. فقد ولّى زمن الإطلاقيات بعد ولادة الهندسات اللاإقليديسية وأصبحت الحقيقة نسبية تابعة لنظام هندسي معيّن.

ج- البديهيات Axiomes والنظام الرياضي Axiomatiques

إن ما سبق يؤكد لنا أن التمييز التقليدي بين المسلّمات Postulats والبديهيات Axiomes لم يعد مقبولاً. فقد استقر الرأي على أن المنطلقات الرياضية هي فرضيات أولى تابعة لنظام أكسيومي. فالرياضيات شأنها في ذلك شأن سائر العلوم العلمية تنطلق من نظام متحدد له فرضياته وعناصره الخاصة. وكما أن في الفيزياء فرضيات مثل مبدأ القصور الذاتي ومبدأ تساوي الفعل وردّة الفعل، فكذلك فإن لكل بناء رياضي منطلقاته الخاصة.

نخلص من ذلك إلى أن البديهيات التي اصطلح على تسميتها في الرياضيات أكسيوم لم تعد كما كانت من قبل إلزامات منطقية عامة ومقبولة في كل مجالات العلوم، بل صارت بدورها فرضيات صالحة فقط في مجال معين. فالقول مثلاً أن “الكل أكبر من الجزء” يعتمد على تعريف محدد للكمية. فهو قول صحيح في مجال الكمية المتناهية فقط، أما في مجال الكمية اللامتناهية، فإن السلسلة اللامتناهية للأعداد الطبيعية تشتمل أيضًا على سلسلة لا متناهية من الأعداد المزدوجة. فههنا إذًا سلسلتان لا متناهيتان ومتساويتان مع أن واحدة منهما هي قسم من الأخرى.

هكذا فقدت البديهيات أوالأكسيومات صفة الإطلاق وصارت بدورها مجرد فرضيات عملانية في مجال محدد، وصارت الرياضيات ذات طابع افتراضي استنباطي. فتكون أي قضية رياضية صحيحة فقط بالنسبة للفرضيات التي انطلقت منها، وتكون قضية مجموع زوايا المثلث مختلفة بين هندسات إقليدس ولوبتشفسكي وريمان. بالتالي فإن الفرضيات الرياضية هي أقاويل ننطلق منها لإقامة نظام رياضي متكامل.

وقد استطاع العالم “هيلبرت” وضع قواعد يحدد فيها ماهية النظام الرياضي. فالنظام الرياضي يجب أن تنطبق عليه الشروط التالية:

1- أن لا تكون منطلقاته وأكسيوماته مستنبطة من بعضها أو من أي قضية خارج النظام المفترض.

2- أن تكون أقاويله ومنطلقاته متلائمة غير متناقضة فيما بينها.

3- أن تكون أكسيوماته مشبعة، مكتفية بذاتها للحصول على عملية استنباطية كاملة.

4- أن تكون منطلقاته وفيرة الخصوبة.

إن هذا النمط من التفكير الرياضي رفع الرياضيات إلى مستوى من التجريد جعل القضايا الرياضية مجرد علاقات ضرورية. وقد أخذ هذا النمط من الفكر الرياضي اسم “المنطقية – أو – الشكلية”. لأنه يهتم بالتسلسل المنطقي أي بالشكل دون المضمون. وقد طبق “راسل” المنهج المنطقي في علم العدد فساوى تمامًا بين الرياضيات والمنطق معتبرًا الرياضيات قمة نضوج علم المنطق.



IV – قيمة الرياضيات = (دور الرياضيات في المعرفة):

سؤال: هل الرياضيات هي علم مستقل بذاته؟ أم أنها فقط لغة للعلم؟

إن التقدم الهائل في العلوم الرياضية والمصداقية العالية التي بلغتها جعلت منها مثالاً يحتذى في العلوم الأخرى. فإلى أي حد تستطيع العلوم الاختبارية الأخذ بالأساليب الرياضية؟

إن علوم المادة تسعى إلى مقاربة منهج الاستنباط وإلى استعمال لغة الرياضيات، وهذا المشروع العلمي مردّه إلى أن الرياضيات مبنية على مجرد قوانين وتتميز بالتالي بوثوق منهجها الافتراضي الاستنباطي وبدقة لغتها. وقد تبنى الفيثاغوريون قديمًا نظرية كوسمولوجية رياضية إلاّ أن محاولتهم فشلت عندما امتزجت باعتبارات فلسفية، وهذا ما أفضى إلى حقبات طويلة من الانحطاط العلمي امتدت من العصور اليونانية وحتى بدايات النهضة الأوروبية.

فخلال هذه الحقبات القديمة والوسيطية، ظلت الرياضيات مجالاً علميًا مغلقًا على نفسه لا علاقة له بسائر العلوم. فالرياضيات حسب التعريف الأرسطي هي المباحث المتخصصة بدراسة الكم، أما الفيزياء فهي المعارف التي تبحث في الكيف، أي في الظواهر الطبيعية المحسوسة.

وبالفعل فقد شكلت بدايات العصور الحديثة مفترقًا حاسمًا في القيمة المعرفية للعلوم الرياضية. إذ لم تعد الرياضيات منفصلة عن سائر الاهتمامات العلمية، بل أصبحت بحق اللغة المنضبطة للتعبير عن الظواهر المادية والفيزيائية.

وإبان القرن السابع عشر كان غاليله ونيوتن من الأوائل الذين خطرت لهم فكرة استخدام الرياضيات كلغة للفيزياء، وذلك بهدف ضبط معارفنا عن العالم المادي بلغة دقيقة وصارمة. ففي كتابه الضخم “مبادئ الرياضيات في الحياة الطبيعية”، أي في مجال الفيزياء يعبر نيوتن بوضوح عن هذه الثورة المعرفية والانقلاب الجذري في مسار العلم. فقد استطاع أن يعبر عن ظاهرة سقوط الأجسام برموز وعلاقات جبرية.

وبالفعل فإن الكثير من علوم المادة قد استطاعت أن تصوغ قوانينها باللغة الرياضية. فغاليله استخدم لغة حساب التفاضل للتعبير عن قوانين التسارع في حركة الأجسام الساقطة. وديكارت عبر بلغة حساب المثلثات عن قوانين انعطاف الضوء.

لكن هذا الاستخدام للرياضيات لا يعني أنها انقلبت أساسًا أو ركيزةً للكشوف العلمية. فهي تستطيع أن تكون لغة معبرة عن الظواهر، لكنها لا تستطيع أن تحلّ محلّ المنهج الاستقرائي والطريقة الاختبارية لاستنباط القوانين.

فالواضح إذًا أن علم الفيزياء يبقى علمًا استقرائيًا يعتمد في الأساس على مراقبة الظواهر الطبيعية واختبارها، ويستطيع في أقصى حدّه التعبير عن القوانين بلغة رياضية، فتكون الرياضيات في مجال علوم المادة لغة تعبير أكثر منها منهج اكتشاف.

بالتالي، فإذا كانت الفيزياء لا تستطيع أن تصل إلى الخصوصية الرياضية الكاملة لأن موضوعها في الأساس هو الكيفية وليس الكمية، لكنها تستطيع على الأقل الأخذ بلغة الرياضيات.

وكما الفيزياء فكذلك هو شأن علمي الميكانيك والفلك، فهما لا يجدان صعوبات بالغة في اتباع المنهج الرياضي باعتبارهما في الأساس من العلوم الرياضية المحسوسة. ولذلك استطاع كيبلر التعبير عن قوانينه بلغة رياضية عندما كشف عن المسار الإهليليجي للكواكب.

ومنذ هذه الانطلاقة الأولى لاستخدام اللغة الرياضية في علوم المادة، أصبحت كل المعارف العلمية تتوجه بخطى سريعة لاستخدام التعبير الرياضي من قياس وعلاقات كمية ورسومات بيانية وما شابه… وقد انسحب هذا الأمر على مختلف العلوم حتى طاول البيولوجيا وعلوم الإنسان.

فالبيولوجيا استخدمت الحساب الاحتمالي في علم الوراثة. وعلم الاجتماع والعلوم الاقتصادية استخدمت الاحصاءات. وحتى علم النفس حاول أن يلجأ في بعض الحالات إلى التعبير الرياضي.

وفي كل الأحوال فإن اللغة الرياضية توفر للقوانين العلمية مزيدًا من الدقة، إلاّ أنها تصادف صعوبات كثيرة في مجال العلوم الإنسانية نظرًا لتعقيد الواقع الإنساني وخصوصياته الدقيقة. وباختصار فنحن لا نستطيع استعمال المنهج الرياضي الاستنباطي في سائر العلوم إلاّ إذا سلبنا الواقع كثيرًا من مضمونه.

فعندما يكون مجال الدراسة وموضوعها هو الإنسان، أي الكائن الحر والعاقل والمريد، فإن عملية ضبط الحسابات الرياضية وخضوعها لسيرورة منطقية ضرورية، ليست دائمًا عملية مضمونة النتائج. وهذا يعني أن الأداة الرياضية التي تصدق بدقة على علوم المادة تفقد الكثير من صلاحيتها عندما يختص الأمر بعلوم الحياة وبالعلوم الإنسانية. فاللغة الرياضية التي تصلح للتعبير عن الكميات، تعجز عن التعبير عن حالات الوعي وعن الوقائع الإنسانية المعاشة، مما يؤكد أن الرياضيات لن تستطيع أن تصبح اللغة الوحيدة التي تعبر بها الثقافة الإنسانية عن نفسها.

إن فرضية تحويل الكون برمته إلى معادلة رياضية كبرى فيبقى حلمًا راود أذهان الفلاسفة والعلماء مثل “ديكارت” و “ليبنتز”. لكن هذا الهدف الكبير يبقى مجرد فرضية دونها صعوبات وتجاذبات علمية وفلسفية.



د.سمير زيدان الجامعة اللبنانية – كلية التربية
مدرّب في المركز التربوي لأساتذة التعليم الثانوي





( ... مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يَنْفَعَ أخَاهُ فليَفْعَلْ ) حديث






>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

شكرا جزيلا عمللل تشكر عليه و اتمنى ان تكمل لنا كل المقرر على هذه الطريقة
أو إذا ممكن أن تدلنا على المراجع و شكرا مرة أخرى

=========


>>>> الرد الثاني :

تستطيع الاطلاع عليها بالضغط على الصفحة التالية

Philo Zeidan



د.سمير زيدان الجامعة اللبنانية – كلية التربية
مدرّب في المركز التربوي لأساتذة التعليم الثانوي




=========


>>>> الرد الثالث :

بارك الله فيك وجزاك خيرا

=========


>>>> الرد الرابع :

الله يكثر من امثالك

=========


>>>> الرد الخامس :



=========


شكرا على المواضيع الممتازة
بارك الله فيك وجزاك خيرا


شكراااا وجزاك الله خيراااااااا